«بلا هالعيشة»، عبارة تتردّد على ألسنة كثيرين من اللبنانيين ممن يعانون من تداعيات الأزمة الاقتصادية. كثر يردّدونها لتوصيف الواقع المزري، لكن بالنسبة إلى آلاف منهم، تتخطّى العبارة الشكوى والانتقاد، إلى احتمال كونها «مؤشراً جديّاً» إلى «رغبة» تراود قائلها بوضع حدّ لـ«هالعيشة».الاتصالات التي يتلقاها «خط الحياة»، وهو الخط الوطني الساخن للدعم النفسي والوقاية من الانتحار (أنشئ بالشراكة بين وزارة الصحة وجمعيّة Embrace) في تصاعد مستمر، وبنسب مقلقة. بحسب إحصاءات الجمعيّة، قفز عدد الاتصالات بشكل هائل «من نحو 2000 اتصال عام 2019 إلى 7498 اتصالاً حتى تشرين الأول الماضي، بمعدل 25 اتصالاً في اليوم، مقارنةً بخمسة اتصالات يومياً فقط قبل عامين».
توضح كريستين الزين، المشرفة على «خط الحياة» في جمعية Embrace، أن الاتصالات التي يتلقّاها «الخط الساخن» لا تنحصر فقط بمن قد تكون لديهم ميول انتحاريّة، بل «تشمل أي شخص يعاني من مشكل نفسي بشكل عام. لكن نسبة المتصلين الذين أبلغوا عن أفكار انتحاريّة في أيلول المنصرم فقط بلغت 28%. هذه النسبة تتغيّر بين شهر وآخر، لكنها تراوح عادةً بين 25% و35% من المتصلين».
تشريح الأرقام يبرز مؤشرات مقلقة حول ما يعانيه اللبنانيون بشكل عام، وتحديداً فئة الشباب، إذ تشير الزين إلى أن «80% من المتصلين لبنانيون، والبقية مقيمون من جنسيات سورية وفلسطينية وعراقية وكينية وإثيوبية وغيرها». واللافت أكثر أن «50% من المتصلين هم من الشباب الذين ينتمون إلى الفئة العمريّة 18- 24 عاماً. وتتساوى النسب بين الذكور والإناث».
الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتدهورة «من أبرز الأسباب التي تدفع الناس للاتصال، إضافة إلى انفجار المرفأ الذي لا يزال كثيرون يعيشون انعكاساته نفسياً» بحسب الزين. وهو ما تؤكده أبحاث ودراسات علمية تربط بين تردّي الأوضاع الاقتصاديّة وزيادة المشاكل النفسيّة والميول الانتحاريّة لدى السكان. وتظهر دراسة نُشرت عام 2013 (للباحثين دافيد ستوكلر ودافيد غونل وبول ييب وشو سن شانغ) حول تأثير الأزمة الاقتصاديّة العالميّة عام 2008 على معدلات الانتحار، وشملت 54 دولة، أن «معدلات الانتحار زادت، تحديداً بين الرجال، في الدول الأوروبية والأميركية التي سجّلت أعلى معدلات البطالة». كما بيّنت دراسة للباحث قسطنطينوس فونتولاكيس حول أثر الأزمة الاقتصاديّة الحادة في اليونان على الصحة النفسيّة للمواطنين «ارتفاع معدلات الانتحار بنسبة 33% خلال السنوات الأولى من الركود الاقتصادي (2009-2015)». وأكّدت الدراسة أن «ثلث هذه النسبة يمكن ربطها بالبطالة التي أثرت خصوصاً على الذكور في الفئة العمريّة 20 - 24»، وهو ما يتوافق مع ما سجّله الخط الساخن في لبنان حول الفئة العمريّة للنسبة الكبرى من المتصلين.
50 % من المتصلين على «خط الحياة» ينتمون إلى الفئة العمريّة 18- 24 عاماً


اللافت في لبنان أن عدد حالات الانتحار المسجّلة رسمياً تراجع في السنوات الماضية، لكنه ترافق مع ارتفاع كبير في عدد الأشخاص الذين قد يميلون إلى الانتحار. وبالتالي، فإن تراجع عدد المنتحرين ليس عاملاً مطمئناً «لأن الإقدام على الانتحار عادة ما يكون وليد ساعته وفي لحظة انعدام للوعي» بحسب الاختصاصي في الأمراض النفسيّة والعصبيّة الدكتور إميل علم.
وتشير الأرقام الرسميّة إلى أن الأشهر الستة الأولى من العام الجاري سجّلت 64 حالة انتحار، مقارنةً بـ 147 حالة عام 2020، و171 حالة عام 2019. تؤكد الزين أن «الأرقام الرسميّة هي حكماً أقل من الأرقام الفعليّة، لأن كثيراً من الحالات لا يُعلَن عنها لأسباب اجتماعيّة ودينيّة. أضف إلى ذلك أن التراجع في عدد حالات الانتحار يمكن تفسيره بأن الأزمات التي نعيشها، سواء الاقتصاديّة أو جائحة كورونا، لا تستثني أحداً، وهو ما يمكن أن يشعر الأشخاص من ذوي الأفكار الانتحاريّة بأن ما يعيشونه لا يرتبط بهم حصراً».
في هذا الإطار، تظهر أرقام نشرتها جمعية «إدراك»، في أيلول الماضي، أن «واحداً من كل 20 شخصاً في لبنان فكّر جدياً في الانتحار، وواحداً من كل 50 حاول الانتحار، وواحداً من كل 60 خطّط للانتحار».
ولأزمة الدواء مخاطر عالية على سلوكيات مرضى الأعصاب «قد تدفعهم إلى أذية أنفسهم أو أذية غيرهم. فمن الخطير جداً انقطاع دواء الأعصاب عن مريض بشكل فجائي، وهذا ما قد يدفع بمن يملكون ميولاً انتحاريّة إلى التفكير جدياً بالإقدام على ذلك» بحسب علم، لافتاً إلى أن «وضع مرضى الأعصاب في حالة يُرثى لها، وهم في بحث مستمر عن الدواء، وإن وجد فقد لا يكون باستطاعتهم شراؤه نظراً إلى ارتفاع سعره. كثيرون يلجأون إلى السوق السوداء لتأمين احتياجاتهم ما يكبّدهم تكاليف خيالية. أحد المرضى، مثلاً، اضطر لشراء علبة الكزاناكس بـ 500 ألف ليرة بدل 10 آلاف ليرة».
ومع ارتفاع كلفة المعاينة النفسيّة وتدهور القدرة الشرائية، أطلقت Embrace بعد انفجار المرفأ «عيادات تستقبل المرضى الذين يعانون من مشاكل نفسيّة مجاناً. ولدينا حوالى 140 مشغّلاً يعملون على مدار 21 ساعة يومياً، وقريباً 24/24، لتلقّي الاتصالات. وجميع المشغّلين يخضعون لتدريب مكثف ومستمر ليكونوا جاهزين للتواصل مع المتصلين وفق المعايير العلمية العالميّة».



الذكور والمسيحيون أكثر المتأثرين!
تظهر القراءة النظريّة والمتابعة العيادية، بحسب محللة نفسيّة وباحثة في علم النفس، أن «الأزمات التي نعيشها في لبنان غير منفصلة عن الشأن الحضاري بشكل عام، حيث أثّر الزواج بين النظام الرأسمالي والتكنولوجيا على مجموعة القيم والمثل والتراتبية والهرمية، وهو ما انعكس بشكل مباشر على النظام البطريركي والأبوي والذكوري حول العالم. وهذا النظام البطريركي هو المهيمن في لبنان، ومن هنا تصيب هذه الأزمة بشكل حاد الرجال، حيث يشعرون أن السقف الذي ينهار يقع على رؤوسهم أولاً». وتشير إلى أن «القلق من المستقبل والغد بات حاضراً وبقوة لدى الناس، على اختلاف بيئاتهم الاجتماعيّة وامكانياتهم الماديّة». إلا أن للأزمات النفسية تقسيماتها الطائفية أيضاً. فبحسب الباحثة نفسها «الجميع قلق على مصيره، لكن الأكثر قلقاً هم المسيحيون ويليهم الدروز، إذ يعتبر هؤلاء أن لبنان الحالي لا يشبههم ويختلف عن لبنان التاريخي الذي كانوا في صلب إنشائه والمكوّن المحوري فيه. في المقابل يخف هذا الشعور لدى السنة الذين يعتبرون، بشكل أو بآخر، أن لهم امتداداً عربياً واسعاً، فيما الشيعة يشعرون بأنهم متحكّمون باللعبة».
وتعتبر الباحثة أنه في غياب أي حلول من قبل الدولة، فإن «الخلاص فردي، وعلى كل شخص أن ينقذ نفسه من خلال الاستثمار في مكامن القوة التي يملكها واللجوء إلى ما يستهويه، وعدم الانجرار وراء السردية بأن السياسيين نجحوا في القضاء على الشعب». وتشير إلى أن «اللجوء إلى خط الحياة للتواصل والتعبير عن المكنونات مهم جداً، كونه يشعر المتصل بأن هناك من يستمع إليه بعد أن صمّت الدولة أذنيها».