من ينتظر صدور ردود فعل مستنكرة للخطاب المهين للبنانيين في الإعلام السعودي، من قبل أبطال مقاومة «النفوذ الإيراني» في لبنان، سينتظر طويلاً. لم يُستفزّ هؤلاء عندما وصفت أبواق محمد بن سلمان، أو «السيد منشار عظم» (MBS: Mister Bones Saw) بحسب «نيويورك تايمز»، المسؤولين اللبنانيين بأنهم «وراق تواليت»، ولم يستثر حميّتهم قيام بعض أوغاد الأمير السفاح بالاعتداء على مواطنيهم المقيمين، لسوء حظهم، في مملكة آل سعود، في أماكن عامة. للوهلة الأولى، سيرى المرء تناقضاً بين عنصرية هؤلاء، التي لا تعرف حدوداً، عند تحريضهم على «الفلسطيني» أو «السوري»، أو أي عربي فقير، ورفضهم القطعي لأي شكل من أشكال رابطة العروبة وصولاً إلى حمل السلاح تصدياً لها خلال الحرب الأهلية، وبين لهفتهم المتأجّجة حيال حكام المملكة السعودية. أدّت هذه اللهفة بعدد من هؤلاء إلى إعادة اكتشاف محاسن الرابطة العربية، مع «الأشقاء الأثرياء» طبعاً.لا تناقض واقعاً في مثل هذه المواقف في بلد «فريد» كلبنان، «العنصرية» فيه فريدة هي الأخرى. فوظيفة العنصرية، كإيديولوجية تبلورت في الغرب الرأسمالي في القرنين الـ18 والـ19، في حقبة توسّعه الاستعماري، سعت إلى تسويغ هذا التوسّع، وسياسات السيطرة على البلدان المستعمرة ونهبها، من خلال افتراض وجود تراتبية بين «الأعراق»، أو بين الحضارات والشعوب، تشرّع لـ«الأرقى» التحكّم بأقدار وموارد «الأدنى». جميعنا يعرف أن اليمين اللبناني، في أطوار تشكّله، وحتى يومنا هذا، يستلهم النظريات والأطروحات العنصرية الغربية، ويعتبر نفسه ممثلاً محلياً لها. غير أن فرادة العنصرية اللبنانية ترتبط بكون لبنان دولة رأسمالية تابعة، ومتداعية في الآونة الأخيرة، لا مركزاً إمبريالياً مسيطراً. وبينما تلذّذ أحد أقطاب العرقية البيضاء الصاعدة، الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في إهانة حكام السعودية مراراً وتكراراً، يجهد العنصريون المحليّون عندنا في التذلّل لهؤلاء الحكام، وإبداء الاستعداد لبذل الغالي والرخيص دفاعاً عنهم. الدمج بين العنصرية والدونية إعجاز لبناني بامتياز!

عنصرية «فريدة»
استندت العنصرية كإيديولوجية الى فكرة تأسيسية، وهي وجود جماعة أصلية «نقية» وغير «ملوّثة» بفعل الاختلاط مع جماعات «أدنى»، عرقياً وحضارياً. ويعيد رودريغو دو زاياس، المفكر الإسباني المتخصّص بشؤون العنصرية وبالتاريخ الأندلسي، في كتابه المرجعي «الموريسكيون والعنصرية الدولتية»، نشأة مفهوم النقاء الى إحدى الحقبات الأكثر ظلمة في التاريخ الغربي، أي تلك التي تلت استعادة المملكة الإسبانية سيطرتها على الأندلس، وطرد وإبادة سكانها من المسلمين واليهود رغم تنصّرهم، بين عامَي 1609 و1612، بعد أكثر من قرن على سقوط غرناطة في عام 1492. كُلّفت محاكم التفتيش مهمة التدقيق في أصول السكان، وفرز ذوي الأصول «غير النقية»، تمهيداً لقتلهم أو طردهم. استعار النازيون والفاشيون مفهوم النقاء في سردياتهم عن الجماعة الأصلية المكوّنة للأمة، تمييزاً لها عن جماعات أخرى «غير نقية»، كالغجر واليهود مثلاً، كانت في عرفهم بمثابة «طابور خامس» ينبغي التخلص منه عبر التطهير العرقي. وقد انطلقت جميع عمليات التطهير العرقي التي شهدها القرن العشرون من ضرورة الحفاظ على «النقاء الأصلي» للجماعة الوطنية. مفهوم «النقاء» هو أول المشتركات الإيديولوجية وأهمها بين اليمين اللبناني وملهميه الغربيين. فالمتأمل لسرديّة هذا اليمين عن تاريخ البلاد يخال له أن اللبنانيين الأصليين هم من سكنوا البلاد منذ الأزل، فنزلوا عن الشجرة، واخترعوا الأبجدية واللون الأرجواني، وخاضوا غمار البحار لاكتشاف العالم. لبنان، وفقاً لهؤلاء، ينقسم إلى أصيلين ووافدين، أتوا من الصحراء، عليهم أن يرتضوا بموقع أدنى، وإلا الحرب و/أو التقسيم. مراجعة تاريخ الحرب الأهلية، وما شهدته من عمليات تطهير اجتماعي - طائفي، واستهداف مركّز من قبل ميليشيات اليمين لأحزمة الفقر، تكتسب بعداً آخر عند إدراك هذا المعطى الإيديولوجي. وقد حرص اليمين اللبناني على تقديم نفسه على أنه قلعة للحضارة الغربية في مواجهة المدّ الوطني التحرري العربي منذ خمسينيات القرن الماضي، وتبنّى مفردات الخطاب الإمبريالي عن هذا المدّ، وارتبط استراتيجياً بمراكزه الأوروبية والأميركية، وبات قوة استدعاء للتدخّلات الخارجية في المنطقة.

صدى للعرقية البيضاء ولكن
التحوّلات الكبرى التي طرأت على موازين القوى الدولية والإقليمية، والتي انعكست تراجعاً في الهيمنة الغربية السياسية والاقتصادية والعسكرية، كان بين تداعياتها الأبرز تعمّق الانقسامات الاجتماعية - السياسية في البلدان الغربية وصعود ظاهرة العرقية البيضاء. نجح بعض مقاولي الهُوية كدونالد ترامب وبوريس جونسون وفكتور أوربان، للمثال لا الحصر، في الوصول إلى السلطة عبر استغلال هذه الظاهرة وتسعيرها واعتماد سياسات تعبّر عنها. انتعشت الأجنحة الأكثر تطرفاً في اليمين اللبناني في ظل هذا السياق العالمي المستجدّ، وراهنت على إمكانية لجوء أميركا الترامبية إلى حرب عدوانية تقلب الأوضاع لمصلحتها. غير أن الحرب لم تقع، وأولويات الأجندة الاستراتيجية الأميركية المتجهة نحو الصين وآسيا، خيّبت آمالها وآمال غيرها من حلفاء الولايات المتحدة المكلومين في الإقليم.
لم يبقَ أمام قوى اليمين اللبناني راهناً، ويا لسخرية الأقدار، سوى الاستدارة نحو «الصحراء»، أي نحو حكام المملكة السعودية، طلباً للدعم والمساندة، في مقابل تقديم أوراق اعتمادها كمجموعة رديفة، مستعدة للعمل ضمن مخططاتهم. هكذا، ابتلعت جميع أطروحاتها العنصرية عن الصحراء وأهلها، أهلنا في الحقيقة، خدمة للسلالات المتحكّمة برقابهم وتتوهّم قدرة على التحكّم برقابنا. ستذهب هذه الرهانات أدراج الرياح نتيجة انقلاب موازين القوى في الإقليم، وعلى وقع المتغيّرات العالمية المشار إليها، وتتبدّد معها أوهام النقاء والتفوّق «النوعي» وغيرها من الترّهات العنصرية المَقيتة.