قد لا تحتاج القوى السياسية السنية التي تستعد لخوض الانتخابات إلى أكثر من عنوان واحد: «استعادة» رئاسة الحكومة. الرئاسة الثالثة التي آلت أخيراً إلى الرئيس نجيب ميقاتي، تحاول عبثاً منذ اتفاق الدوحة أن تترك بصماتها في الحياة السياسية، من دون أن تنجح في استرجاع العز الذي عاشته بين 1990 و2005 مع الرئيس رفيق الحريري. فمنذ عام 2005، ولاحقاً أحداث عام 2008، بقيت رئاسة الحكومة، مع تغير أساليب الرؤساء ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام وسعد الحريري وحسان دياب، تعيش إلى حد كبير وكأن هناك من سحب منها صلاحياتها، وجعلها رهينة خيارات سياسية متقلبة بين قوى 8 و14 آذار، ووسطية، ومن ثم متماهية مع تسويات رئاسية. وعلى رغم الفراغ الذي عاشته رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، وبقاء حكومة سلام، إلا أن الوجهة الفعلية للقرارات الحكومية لم تكن حكراً على الرئاسة الثالثة بفعل تأثيرات الثنائية الشيعية من جهة والتيار الوطني الحر من جهة ثانية.مع التسوية الرئاسية، تحولت صلاحيات الرئاسة الثالثة عنواناً دائماً يطغى على جدول أعمال القوى السياسية السنية، عندما تحتدم الصدامات السياسية. وخلال خمس سنوات من عمر العهد لا يمكن تعداد المرات التي استعملت فيها هذه الكلمة من جانب قوى سياسية ودينية سعت إلى إظهار مظلومية الموقع بعدما ارتفع منسوب تأثير رئاسة الجمهورية عليها، كما الثنائي الشيعي، في الاتجاهات التي سلكها لبنان. وليست الهزة التي عرفتها مع استقالة الحريري من السعودية وحدها التي جعلت من رئاسة الحكومة مشلّعة، ولا اختيار دياب رئيساً للحكومة من دون أن يحظى بتغطية سنية شعبية وقيادية، فأداء بعض رؤساء الحكومات المتعاقبين ساهم في وضع رئاسة الحكومة على مفترق طرق بين انحسار دورها التنفيذي وقيادتها السياسية، فضلاً عن تأثيرات الآخرين عليها.
هناك من قلب البيت من ساهم في إيصال رئاسة الحكومة إلى ما وصلت إليه بعيداً من مسؤولية القوى الأخرى


مع ما يدور اليوم حول الاتجاه الذي سيسلكه الحريري في الانتخابات النيابية، تسعى بعض القوى والشخصيات السنية للتقدم نحو الصف الأول، في إطار البحث عن دور وموقع فعال في الطائفة التي يعتبر هؤلاء أنها أصبحت مخطوفة أو رهينة الطوائف والأحزاب الأخرى. وما تعيشه حكومة ميقاتي منذ أن ولدت، جعل من الصعب على هؤلاء التكيف مع مجريات الأحداث في شكلها التسلسلي، من دون النظر إلى موقع رئاسة الحكومة والقيادة السنية في الانتخابات وبعدها. ومن الطبيعي أن يترك أي قرار يتخذه الحريري بالانسحاب من الانتخابات ومن الحياة السياسية، تأثيرات مباشرة على منافسين له، من بينهم من ينتمون إلى ناديه السياسي، أو إلى الخط نفسه من ضمن معارضة تامة لأدائه منذ ما قبل التسوية الرئاسية، أو الذين يعارضونه كلياً. لكن مهما كان نوع القرار الذي يتخذه، فإن موقع الرئاسة الثالثة في حد ذاته أصبح عنواناً أساسياً في مقاربة هؤلاء جميعاً، لأن كل مرشح لخلافته، أو حتى لمنافسته إذا قرر العودة إلى خيار المشاركة في الانتخابات، سيضع أمام عينيه هدف استقطاب الشارع السني، وستكون المادة الأكثر جذباً وتحريكاً للمياه الراكدة رئاسة هي الحكومة بما لم تعد تمثله. ولعل ما تعيشه حكومة ميقاتي، لا سيما في الأزمة مع السعودية، عامل مساعد في جعل المرشحين من الصف الأول يتحركون في اتجاه واحد. فإذا كان رئيس الحكومة لم يتمكن من احتواء أزمة سياسية مع السعودية بما تعنيه تاريخاً وانتماء دينياً للطائفة السنية، لا بل إن الوزير المعني بها يبادر إلى الرد عليه وتجاهله، فكيف يمكن النظر إلى رئاسة الحكومة من دون الأخذ في الاعتبار أنها أصبحت أسيرة حسابات لا علاقة للطائفة السنية بها. وفيما تم اجتياز المطبات الحكومية، وتشكيل الحكومات وفق معايير لا يضعها رئيس الحكومة بل توضع عليه شروط ويأخذ بها، إلا أن ثمة سقوفاً باتت الطوائف والأحزاب السياسية تتجاهلها، بغض نظر من الطبقة السياسية السنية نفسها. هذه عناوين تنافسية بين شخصيات سنية تسعى إلى أن تكون لها كلمة في ما جرى مع السعودية كمثال، وفي ما يسجل من تفاصيل التدهور في تأثير التمثيل السني في الحياة السياسية. وهي عناوين مرحلة مقبلة سيبنى عليها، في إطار حملة مشدودة تسبق الانتخابات، التي ستكون استحقاقاً ليس في التحالفات مع القوى الأخرى، بقدر ما هي لترتيب البيت السني الداخلي وزعامته وإخراجه من الدوامة التي يمر بها منذ سنوات، وإعادة توازن اختل في السنوات الأخيرة. وهذا تحد كبير تضعه أمامها، لأن ليس من السهل استعادة ما فقد على مدى سنوات من دون الأخذ في الاعتبار تجارب سابقة مر بها المسيحيون على سبيل المثال، وقراءة السنوات الماضية من زاوية موضوعية بأن هناك من قلب البيت من ساهم في تضييع كثير من الفرص وإيصال رئاسة الحكومة إلى ما وصلت إليه في شكل متهور أحياناً، مهما كانت مسؤولية القوى السياسية الأخرى في تراجع دور الرئاسة الثالثة.