يوماً بعد آخر، يثبت السعوديون أنهم ليسوا في وارد معالجة الأزمة مع لبنان من دون تنفيذ شروطهم غير القابلة للتحقق. وهم يرفعون من درجة تصلّبهم مع كل اعتراض على ما يقومون به، علماً أن الجميع يدرك تماماً أن ما تريده الرياض هو رأس حزب الله. كما تعرف الرياض تماماً أن هذه مهمة ليست على جدول أعمال أحد في لبنان، إما لانعدام الرغبة لدى البعض أو لغياب القدرة لدى البعض الآخر، ما يدفعها إلى تصعيد حملتها مع مستوى جديد من الفبركة التي تستهدف النيل من كل صوت منتقد.فبعد كلام نقلته شخصيات على تواصل يومي مع السعوديين تضمّن انتقادات حادّة لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية، واتهامه بمعارضة رغبة البطريرك الماروني بشارة الراعي، ووسط استمرار الحملة المسعورة ضد وزير الإعلام جورج قرداحي، بدأ الإعلام السعودي حملة على وزير الخارجية عبدالله بوحبيب على خلفية كلامه عن ضرورة اللجوء إلى الحوار البناء لمعالجة المشكلة.
في غضون ذلك، علمت «الأخبار» أن حصيلة لقاءات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على هامش قمة المناخ في غلاسكو الاسكتلندية، خلصت إلى الآتي:
- تبلّغ ميقاتي موقفاً أميركياً - فرنسياً - ألمانياً بعدم الاستقالة، مع حثه على إيجاد مخرج للعودة إلى الحوار مع السعودية. وترى هذه الدول أنه يمكن للبنان القيام بخطوة رمزية تتمثل في استقالة قرداحي أو إقالته. وهو ما سعى إليه رئيس الحكومة، بالفعل، في اتصالات جديدة مع الرئيسين ميشال عون ونبيه بري ومع البطريرك الماروني، وقد سمع أجوبة تتراوح بين دعوته للعودة وعقد جلسة للحكومة للبحث في الأمر، وبين التأكيد له بأن السعودية لا تريد رأس قرداحي، بل تطلب ما هو غير ممكن وغير مقبول.
في الخلاصة، يبدو رئيس الحكومة في موقع حرج، وهو الذي رفع شعار الوساطة القطرية مع إدراكه مسبقاً بأن لا نتائج تُرتجى منها، بعد تبلّغه من الأميركيين والفرنسيين بعدم قدرتهم على إقناع الرياض بتعديل موقفها. وكان الأميركيون أكثر صراحة في أنهم لا ينوون التحدث مع محمد بن سلمان على مستويات رفيعة، في إشارة إلى استمرار امتناع الرئيس الأميركي جو بايدن عن تحديد موعد لاستقباله في واشنطن أو لقائه في الخارج.
وتتأتّى خشية الرئيس ميقاتي من واقع شعبي سني يضغط عليه، خصوصاً مع دخول نادي رؤساء الحكومات السابقين في المزايدة، فيما لا يتوقع أن يخرج أي صوت يناصره في مواجهة الضغوط السعودية، علماً أنه أبلغ الجميع استعداده للذهاب إلى الرياض للحوار، لكن السعودية ترفض التواصل معه.
تشكيك في جدوى الرهان على الأميركيين والأوروبيين والقطريين لمعالجة المأزق


إلى ذلك شكّكت مصادر مطلعة في جدوى الرهان على الأميركيين والأوروبيين وبعض العرب لمعالجة المأزق. وأشارت إلى أن واشنطن وباريس قادرتان على منع ميقاتي من الاستقالة لا منع الحكومة من الاهتزاز كل الوقت. بالتالي فإن المخرج الشكلي الذي يُفكّر به ميقاتي - وهو متعذّر أصلاً - لن يظِهر معالم الضعف في صورة حكومته وحسب، بل لن تلتفِت إليه السعودية، فكل المؤشرات والتصريحات تؤكّد بأن ثمّة حسماً في ما يتعلّق بضرورة أن تأخذ الحكومة موقفاً رسمياً من سياسات حزب الله، لا بل تريد من الجميع الدخول في مواجهة معه، وإلا فإنها ستعمَد إلى لعب كل أوراقها التصعيدية دفعة واحدة، مهدّدة بإجراءات إضافية. وتبعاً لذلك، لا تتوقّع المصادر أي تبديل إيجابي من الجانب السعودي الذي لم يرسِم حدود التصعيد الممكن بوجه الحكومة والبلد.
كذلك شكّكت المصادر في إمكان أن تحقق قطر خرقاً ما في ظل الآمال التي بناها البعض على الزيارة المفترضة لوزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى بيروت قريباً، من منطلق أن المملكة «تعتقِد بأن في استطاعتها توجيه ضربة تحتَ الزنار للبنان لتحسين شروطها في الإقليم».
في بعبدا، لا يزال رئيس الجمهورية مقتنِعاً بضرورة عقد جلسة للحكومة تناقش الأزمة. ووفقَ معلومات «الأخبار» يجري النقاش في عدد من الأفكار للاستحصال على موافقة جميع الأطراف، وتحديداً الثنائي الشيعي الذي امتنع عن المشاركة في اجتماعات الخلية الوزارية. ومع أن المعلومات تؤكد بأن لا عون ولا التيار الوطني الحر تواصَل مع حزب الله لمناقشة أمر عقد الجلسة إلا أن الفكرة قيد الدرس.

وزير الخارجية يشرح والسعودية تفبرك
في هذه الأثناء، أعاد بو حبيب أمس شرح حقيقة الموقف السعودي. وقال في مقابلة مع وكالة «رويترز» إن الرياض تملي شروطاً مستحيلة من خلال مطالبة الحكومة بالحد من دور حزب الله، مضيفاً أن السعوديين لم يجروا أي اتصالات مع الحكومة التي تشكلت حديثاً حتى قبل الخلاف الدبلوماسي الأخير. وأضاف: «نحن أمام مشكلة كبيرة، إذا كانوا يريدون فقط رأس حزب الله، فلا نستطيع أن نعطيهم إياه، وتصريحات وزير الخارجية السعودي كانت واضحة في أن حزب الله هو المشكلة وليس جورج قرداحي الذي كان مثل فتيل للأزمة». وأوضح بو حبيب أن حزب الله «لا يهيمن على البلد. هو مكون لبناني يلعب سياسة، نعم عنده امتداد عسكري إقليمي، لكنه لا يستخدمه في لبنان، ومشكلته الإقليمية أكبر من قدرتنا نحن على حلها، هذه نحن لا نستطيع حلها... كلنا نريد جيشاً واحداً وبلداً واحداً ولكن لدينا واقع». وأكد «أننا مصرّون على علاقات جيدة، لا بل ممتازة، مع المملكة العربية السعودية، ولكن ينبغي أن نعرف بالضبط ماذا يريدون، وما هو بمقدورنا كلبنانيين أن نفعل. ونحن نفضل الحوار على الإملاء، نريد إجراء حوار. نحن دولتان مستقلتان وهناك تعاون هائل بيننا تاريخياً». وشدد على أن الحوار المتبادل بين لبنان والسعودية هو السبيل الوحيد قدماً لحل الخلاف، لكنه أشار إلى أنه لم تكن هناك اجتماعات على أي مستوى بين الطرفين منذ تشكيل حكومة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي منذ أكثر من شهر. وقال: «لم يكن هناك حوار مع السعودية قبل مشكلة الوزير قرداحي، السفير السعودي هنا لم يتعاط معنا قط... كان هنا وكان يتعاطى مع الكثير من الساسة اللبنانيين لكنه لم يتعاط معنا. نريد للسعودية أن تبقى هنا، وطبعاً تضايقنا أنه لا يتكلم معنا، لكن هذا لا يعني أننا سنتخذ أي إجراءات... فإذا لم يقوموا بأي اتصال في السابق فكيف تريدون أن يقوموا بالاتصال اليوم، هم يرفضون الاتصال بأي مسؤول في الحكومة». وأضاف أن ميقاتي كان «يتمنى أن يجتمع مع الوزير السعودي في مؤتمر المناخ في غلاسكو، لكن لا أظن أن السعوديين مستعدون لذلك، التقيت في بلغراد بالوزير السعودي وسلمنا على بعضنا لكنه رفض أن نجلس سوية، وهذا كان قبل (إظهار) تصريحات الوزير قرداحي».

أبلغ الأميركيون ميقاتي أنهم لا ينوون التحدث مع محمد بن سلمان


وأشار بو حبيب إلى أن «في السعودية ربع مليون لبناني أو أكثر يعتاشون من هناك ويعتاش أهلهم منهم أيضاً. نقدر هذا ونثمنه كثيراً». لكنه أردف: «اعتذار الحكومة غير وارد لأن الحكومة لم تخطئ، وما قاله الوزير قرداحي كان قبل الحكومة». وأضاف: «توجد مساع ومساعدة من الأميركيين والفرنسيين، ولكن لا توجد مبادرة أخرى غير المبادرة القطرية، و«أمير قطر يستطيع أن يقوم بالوساطة بين لبنان والمملكة لسببين: أولاً هم واجهوا المشكلة نفسها مع المملكة، وثانياً هم الآن أصدقاء... وهو يعرف تجربة لبنان ومن أكثر الدول التي يهمها لبنان ويعرف أيضاً المملكة... إن شاء الله يقوم بهكذا مسعى وينجح ونحن سنعطيه كل ما نستطيع لكي ينجح في مهمته».

فبركة وشيطنة
لكن الإعلام السعودي، من جهته، استمر في عمليات الفبركة. إذ تبين أن مراسلاً لصحيفة «عكاظ» السعودية عمد إلى تحوير، لا بل تزوير، تصريحات للوزير بو حبيب خلال لقاء جمعه مع مراسلي الصحف الخليجية في بيروت. ونشرت الصحيفة السعودية ما اسمته «محاضر خاصة حصلت عليها من مصادرها الخاصة»، وزعمت أن الوزير «حاول التراجع عنها مطالباً إياهم بإخفائها وعدم نشرها، بعد أن نصحه مستشاروه بالتراجع الفوري لئلا يثير المزيد من الغضب في الشارع اللبناني المحتقن على حكومته وسياستها وتخبط وزرائها، وسعى مكتب وزير الخارجية اللبناني لمنع انتشار التصريحات، وحاول استجداء الصحافيين الحاضرين في جلسة الوزير المحتقن بكل قوة لعدم نشرها».
وكتبت الصحيفة، في سياق التحريض على كل القيادات اللبنانية، أن التصريحات تظهر «حقد (الوزير بوحبيب) على السعودية ودول الخليج، وانسجامه مع الدعايات المغرضة التي يروجها زعيم ميليشيات حزب الله وأعوانه في طهران، وتناقض طرحه في الخفاء عما يظهر في العلن أمام اللبنانيين، وسعيه لشيطنة دول الخليج». وأضافت: «الوزير الذي يأتي على رأس هرم الديبلوماسية اللبنانية، بدا منفعلاً من القرار الخليجي، وحاول اختزال الأزمة في تصريحات القرداحي التي يراها اختلافاً، حين عاد إلى تصريحات سلفه شربل وهبة مبرراً بقوله: حتى عندما أقلنا وهبة لم تقدّر السعودية ذلك، مضيفاً: إذا كنا لا نستطيع أن نختلف ما بدي هيك أخوة، اليوم إذا أقالوا قرداحي ماذا سنحصد من المملكة؟ لا شيء... سيطلبون أموراً أكثر». وأضافت أن «حديث الوزير بدا أكثر سذاجة وهو يبرر تهريب المخدرات وتصديرها عبر بلاده إلى المملكة بأن سوقها للمخدرات هو الدافع الرئيسي خلف التهريب، لا تجار المخدرات في بيروت وضواحيها»! كما زعمت الصحيفة أن بوحبيب «خفف من أهمية الدعم المالي الخليجي، معتبراً أن المساعدات المهمة كانت تأتي من الاتحاد الأوروبي، أما مساعدات السعودية فهي ليست للدولة، بل أعطيت في الانتخابات وأعطيت مساعدات لهيئة الإغاثة بعد 2006 التي لا نعرف أين صرفت، لكن الدولة لم تأخذ منها شيئاً».
بوحبيب نفى مزاعم «عكاظ»، وعلمت «الأخبار» أنه سيصدر اليوم توضيحاً تفصيلياً يفنّد هذه الفبركة.