خرج في العامين الماضيين من لخّص مشكلة لبنان بالزعماء الستة. التبسيط الطائفي لمشكلة وطن إشكاليٍّ منذ تأسيسه ليس بريئاً. التبسيط ميّزة التهرّب من الحلول السياسية الجذرية، إذ تحوّل المشهد بتعقيداته إلى شعار دعائي جذاب و«لبّيس» للاتهامات واللوم. لكن عندما تبسّط المعركة إلى هذا الحد، تسهّل الهجوم المعاكس. فمقابل الزعماء الستة، هناك السفراء الستة، وهم كانوا حتّى الأمس القريب متراصّين في ما يريدونه في لبنان، ولديهم تاريخ من العمل المشترك لهذه الغاية. هؤلاء الستة هم سفراء ابن سلمان وابن زايد وماكرون وميركل وجونسون وطبعاً كبيرتهم سفيرة دونالد ترامب التي لا تأبه إدارة بايدن بلبنان كفاية لتتكلّف عناء تغييرها. ينشط الستة منذ سنوات في دعم جهات تقليدية وأخرى مستحدثة، وخلق جبهات مختلفة الولاءات يوحّدها مفهوم الاستزلام للسفارات للاستقواء على الشعوب، وأي قوى تحرّر وطني، والتي تغيّرت هوياتها عبر التاريخ لتتصدّرها اليوم ما يسمّى بقوى محور المقاومة.لكن المسألة ليست بهذه البساطة، وفي السياسة الأمور ليست دائماً متراصّة. فقد تتضارب مصالح الحلفاء في مكان ما، ويوتّر ذلك علاقاتهم ويخلق تجاذبات مرحلية قد تتطوّر وتؤدي إلى القطيعة. ورغم أن السفراء الستة في لبنان ما زالوا يتفقون على الهدف الرئيسي، غير أنهم يختلفون في الاستراتيجيات وعلى ما يريدونه من مكتسبات. فالخرق الأمني البريطاني للمؤسسات العسكرية في لبنان لا يمكن النظر إليه إلا من منظور الخدمة المباشرة لمشروع الاستعمار العسكري الذي أسّسته المملكة المتحدة في المنطقة منذ التقسيم الاستعماري لمنطقتنا واستحداث الكيان «الإسرائيلي»، والتي تتشارك بإدارته مع وريثة إمبراطوريتها على الضفة المقابلة من المحيط الأطلسي. المقاول ماكرون عينه على مشاريع في لبنان والجوار والتي يحتاج إليها اقتصاد بلاده المأزوم. السفير الألماني قد يكون أخبث الستة وهو يتغلغل حيث لا يستطيع الأميركيون الولوج. وطبعاً، هناك السفيران اللذان غادرا لبنان بعدما حردا لأن بلديهما خاضا وخسرا حرباً عبثية، ما جعل عرشيهما يواجهان خطراً وجودياً. تترأس هؤلاء قارعة الدفّ في عوكر التي تدير دفة سفينة غارقة.
الأزمة الاستعراضية المستجدّة توحي بأنّ هناك شرخاً بين منتدبي الاستعمار لإدارة الثروة النفطية في الرياض وأبو ظبي ومشغّليهم في الغرب حيث يقال إن حكومة نجيب ميقاتي معلّقة بحبل فرنسي ــــ أميركي يقيها الانهيار قبل أن يتعارف وزراؤها جيداً بعضهم على بعض. لعل تعارفهم كان ليجنّبهم حرج المزايدات التي يقومون بها على موقع «تويتر» بدل أن يقوموا بإدارة الدولة. لكن في الواقع لا تتضارب الأهداف حيث إن هذا الخلاف في التعامل مع الملف اللبناني يضاعف فرص الابتزاز لدولة منهارة وينهي أي محاولة لإنقاذها. هذا على السبيل المحلي، أما إقليمياً، فالابتزاز أكبر حيث يجد ابن سلمان نفسه مجبراً بمحاولة قلب الطاولة بعد سلسلة من الانتكاسات والعصا الأميركية المتمثّلة بالمقابلة التلفزيونية الأخيرة للمخابراتي السعودي المنشقّ سعد الجبري، التي لا يمكنه الرد عليها، فارتأى الانتقام من إطلالة تلفزيونية قديمة لجورج قرداحي. وهنا لا يمكن إهمال النزعة الاستعبادية لأصحاب قناة mbc الذين يريدون كل من عمل معهم أن يتصرف على شاكلة علي معين جابر. لكن في نهاية المطاف، تصرّف الأمراء الاستعبادي ما هو إلا لتعويض الشعور بالنقص الذي يكنّونه تجاه أسيادهم، فهم مهما علا عرشهم يبقون خانعين ذليلين أمام من يحميهم ويتيح لهم الاستقواء على شعوبهم. لذا لا فائدة من استجداء رضى من منّ علينا بمغادرة سفارة العائلة الحاكمة والتي أصلاً ستغلق نهائياً في يومٍ ليس بالبعيد، إلى جانب جميع سفارات هذه العائلة، إذا ما استمرّت همّة ولي العهد كما هي اليوم.
أفرزت الأحداث المتسارعة في الأسابيع القليلة الماضية وضوحاً في الاصطفافات في البلد ازداد مع كل حدث، وصولاً إلى حرد آل سعود، وفجأة نُسيَت نغمة «الزعماء الستة» و«كلّن يعني كلّن». بكل بساطة، الاصطفاف اليوم هو بين التحرّر الوطني بكل ما يمثّله ذلك وبين الرضوخ لابتزازات ومكرمات «السفارات الست». طبعاً قرار التحرّر متّخذ ولا عودة عنه، والمعركة محتدمة في أكثر من مكان. في ما يخصّ لبنان، بات واضحاً أن واشنطن وعملاءها ماضون في سياسة العقاب الجماعي لتركيع الشعب، وهي بالمناسبة أيضاً كحرب اليمن عبثية ولن تجدي نفعاً، ورغم ذلك هناك في البلد زعماء ووزراء ونواب ومسؤولون و«بديل ثوري» يصرخ «دعونا نركع».
القرار الثوري الفعلي هو في طرد السفراء الأربعة المتبقّين الذين يعملون على الأرض ليل نهار لمحاصرة أي محاولة تحرّر من استعمارهم، أو على الأقل إيقاف مشاريعهم وتعرية أهدافها. وهكذا قرار لن يخرج عن حكومة تستجدي «الإنقاذ» من صندوق النقد الدولي وتحلم بالعودة إلى حضن آل سعود.
اطردوهم.