إنه عرض التسوية!هكذا لخّص مرجع كبير ما يجري من اتصالات أطلقتها الجولة التي قام بها البطريرك الماروني بشارة الراعي، أول من أمس، على الرؤساء الثلاثة، واستكملت أمس باتصالات بقيت بعيدة من الأضواء. وأكّد المرجع أن الراعي تصرف بناء على نصائح داخلية وخارجية بالسعي إلى عقد تسوية مع «الشخص القادر على صنعها» منعاً لتفاقم الأمور إلى خراب كبير.
وبحسب المرجع، فإن الراعي عندما طلب زيارة الرئيس نبيه بري، كان الأخير في انتظاره مع ترتيبات لاجتماع مطول. وقد بدأه الراعي بالحديث مباشرة عن مشكلات كبيرة تعيشها البلاد، وأن سفك الدماء لن يبقي على شيء، وأن الأزمات المتفاقمة اقتصادياً ومعيشياً واستمرار التعثر المالي واحتمال تطور الأمور إلى الأسوأ وعدم حصول الانتخابات، يتطلب السعي إلى تسوية سريعة. وفُهم أن البطريرك صارح رئيس المجلس بالقول: «نحن أمام أزمتين كبيرتين، حلهما يساعد في إطلاق العجلة السياسية، ويفتح الباب أمام علاجات لمشكلات كبيرة أهمها الملف الاقتصادي، ويسحب فتيل التوتر الذي قد يتطوّر إلى أحداث أمنية خطيرة»، قبل أن يشير بوضوح إلى أن الحديث يدور حول ملفي التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت وجريمة الطيونة، مبدياً حرصه على إدانة قتل الأبرياء، وقدّم التعازي بالضحايا لبري.
وفق المصدر نفسه، كان الراعي صريحاً للغاية عندما قال إنه مستعد لتولي وساطة تؤمن حلاً لمشكلة التحقيقات في جريمة المرفأ، مشيراً بوضوح إلى إمكانية حصول ما يؤدي إلى تعجيل القاضي طارق البيطار في إنجاز قراره الظني، على قاعدة ترك ملف الادعاء على الوزراء والنواب ورؤساء الحكومات إلى المحكمة الخاصة بهم، أي من خلال مجلس النواب، والأخذ بقرار النيابة العامة والمجلس الأعلى للدفاع بعدم الادعاء على المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم. على أن يحال الملف إلى المجلس العدلي الذي يتولى من جانبه معالجة الملف بحسب مقتضيات القانون.
وأبلغ الراعي بري أن نجاح هذا الأمر يجب أن يؤدي إلى نزع فتيل التوتر الكبير والسقف المرتفع في خطاب حزب الله وإلى سحب ملف البيطار من التداول الإعلامي والسياسي ويعيد الحكومة إلى العمل. لكن الأمر يحتاج إلى خطوة مقابلة في ملف الطيونة، لأن استدعاء «زعيم مسيحي بارز» مثل سمير جعجع أو محاكمة حزب القوات ستكون له تأثيراته السلبية الكبيرة أيضاً، محلياً وخارجياً.
بحسب المرجع، فإن بري كان في انتظار ما قاله الراعي – تؤكد مصادر أن رئيس المجلس كان في أجواء ما يريد البطريرك إثارته – فعمد إلى تقديم مطالعة قانونية ودستورية تصب في خانة اقتراح الراعي، مضيفاً أن «معالجة ملف التحقيقات في المرفأ ستنفس الاحتقان على أكثر من صعيد، ولسنا في موقع من يعقّد الأمر في ملف التحقيقات في جريمة الطيونة. نحن أسكتنا أهلنا، وأحلنا الملف على الجهات التي تتولى التحقيقات، ولن نتدخل للضغط باتجاه تصعيد الأمور، ولا نريد التجنّي على أحد، وسنساعد على كل ما ينفّس الاحتقان ويخفّف التوتر، وحزب الله نفسه معني بأي علاج يمنع جرّ البلاد إلى فتنة».
بعد الزيارة التي اعتبرها الراعي مقدمة لحل، كان اهتمامه الأكبر منصبّاً على زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون، كون الرئيس نجيب ميقاتي مستعجلاً أي تسوية تعيد الحياة إلى حكومته، وقد أبلغ الراعي موافقته على أي تسوية يقبل بها الرئيس بري، فيما كان البطريرك في أجواء تفيد بأن عون متشدّد حيال مراعاة أي من الأطراف في ملفي المرفأ أو الطيونة على حد سواء.
السفيرة الأميركية عبّرت عن امتعاضها من استدعاء جعجع والسعودية والإمارات أوعزتا إلى «جماعتهما» بالدفاع عنه


لكن رئيس الجمهورية، الذي كانت أخبار الاتصالات قد وصلته قبل استقبال الراعي، بادر إلى إبلاغه بأنه يوافق على أي حل يمنع جر البلاد إلى فتنة. إلا أنه كان واضحاً بأنه لن يبادر من جانبه إلى ممارسة أي ضغط أو تواصل لا مع قيادة الجيش ولا مع السلطات القضائية لطلب أي أمر خاص في الملفين، مؤكداً في الوقت نفسه أنه لن يقوم بأي عمل من شأنه عرقلة أي تسوية ممكنة، لأنه لا يريد جر البلاد إلى فتنة يعرف أن هناك من يريدها لأغراض تخصه ولا تخص اللبنانيين، كما يعرف أن أحد الأهداف هو منع الحكومة من القيام بأي خطوات إصلاحية، وأن هذه الأطراف تريد لعهده أن ينتهي بصورة مأساوية.
وبينما تعرض البطريرك الماروني لحملة اعتراضات على خلفية أنه يقوم بمقايضة على حساب التحقيقات في المرفأ، تعرض الرئيس بري للأمر نفسه على خلفية أنه يقوم بمقايضة ملاحقة وزراء ونواب في جريمة المرفأ بوقف التحقيق مع جعجع، وتالياً عدم التوسع في التحقيقات لتبيان ما إذا كانت قيادة حزب القوات متورطة في الجريمة.
ومنذ صباح أمس، تولى الراعي ومقربون منه التواصل والرد على الاستفسارات، نافياً أن يكون في وارد أي مقايضة، وأنه أكد فقط احترام الدستور والقوانين. بينما عمد رئيس المجلس إلى إبلاغ مساعديه والقوى الحليفة له أنه أكّد للراعي وجوب استمرار التحقيق في مجزرة الطيونة حتى النهاية، خصوصاً أن «القضية كبيرة ودم الشهداء بَعدو عالأرض».
وعلى ضوء التطورات السياسية، سادت أمس أجواء بأن الضغوط على مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي دفعته إلى صرف النظر عن استدعاء جعجع للاستماع إلى إفادته.
فعند العاشرة والنصف من صباح أمس، اتصل محققو مديرية استخبارات الجيش بعقيقي، لإبلاغه بأن جعجع لم يلبّ الاستدعاء، ولم يحضر للاستماع إلى إفادته. فأشار بختم المحضر المفتوح لدى المخابرات، وإرساله إليه «لاستكمال الإجراءات». هذا المحضر متفرّع من المحضر الأساسي لمجزرة الطيونة الذي اختتم عقيقي التحقيق فيه وادّعى بموجبه على 68 شخصاً، أبرزهم مسؤول أمن جعجع، سيمون مسلّم. وأبقي المحضر الجانبي مفتوحاً بهدف الاستماع لإفادة رئيس القوات، وتحديد هويات «قياديين ومحازبين في القوات اللبنانية، إضافة إلى مدنيين شاركوا في إطلاق النار يوم 14 تشرين الأول 2021، في محلة الطيونة والشياح وعين الرمانة وبدارو»، بحسب مصادر معنية.
ما قام به عقيقي أمس يناقض حماسته الزائدة لإبلاغ جعجع بوجوب مثوله أمام محققي مخابرات الجيش. فيوم الاثنين الماضي، وبعدما طلب القاضي من مديرية المخابرات إبلاغ جعجع باستدعائه، حاول آمر فصيلة غزير في الدرك (وهو قواتي الهوى معيَّن في موقعه بطلب من رئيس القوات) ثني النقيب في الجيش، ط. م، من الوصول إلى معراب، فاتصل الأخير بالقاضي راوياً ما حدث معه، فردّ عقيقي قائلاً: «عليكَ أن تُبلغه، وإلا فأنت تتحمّل المسؤولية أمامي». بناءً على ذلك، قرر النقيب التوجه إلى مقر معراب، حيث قيل له إنه «غير متوافر حالياً». عاود الاتصال بالقاضي، فأشار الأخير عليه بوجوب إبلاغ جعجع لصقاً.
أداء عقيقي أظهر حماسة كبيرة لاستدعاء جعجع، وبخاصة بعدما هاجمه الأخير الخميس الفائت، ووصفه بأنه «مفوّض حزب الله لدى المحكمة العسكرية».
وفي الأيام الفاصلة بين تسريب خبر الاستدعاء وأمس، كان قائد الجيش العماد جوزف عون يتعرّض لضغوط شتى، بصفته «المشرف الفعلي على عمل المحكمة العسكرية، ويمون على القاضي عقيقي». السفيرة الأميركية دوروثي شيا كانت تعبّر عن امتعاضها من نتائج التحقيق في مجزرة الطيونة، مستغربة استدعاء جعجع. أما السعودية والإمارات، فأوعزتا إلى «جماعتهما» في لبنان بوجوب الدفاع عن رئيس «القوات». وعندما تدخّل البطريرك الراعي مع قائد الجيش لتخفيف الضغط عن جعجع، ردّ العماد جوزف عون بأنه ينفّذ أوامر قضائية. علاقة البطريرك بالقاضي عقيقي ليست بالمتانة التي تسمح للراعي بالتدخل لحماية جعجع، فقرر رأس الكنيسة المارونية أن يجول على الرؤساء الثلاثة لمحاولة نيل قرار رئاسي بمنح رئيس القوات حصانة تحول دون الاستماع لإفادته. وتعمّد الراعي أن تكون عين التينة وجهته الأولى، لما للرئيس بري من موقع معنوي متصل بما جرى في الطيونة من جهة، وبسبب القرابة العائلية التي تربطه بالقاضي عقيقي (زوج ابنة شقيقة بري).
ويوم أمس، شنّ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل هجوماً قاسياً على «القوات» وحركة «أمل» من دون أن يسميهما، ما يؤشر إلى رفضه وعون، أي صفقة تتضمّن تحييد البيطار. وقال باسيل: «لما حكيت عن تواطؤ ثنائي الطيونة قامت القيامة. هيدا التواطؤ شفناه بالشارع على دمّ الناس وبمجلس النواب على قانون الانتخاب وحقوق المنتشرين، وبكرا رح نشوفه بالمجلس وبالقضاء على ضحايا انفجار المرفأ والطيونة سوا. لا لطمس الحقيقة بأكبر انفجار شهده لبنان والعالم مقابل تأمين براءة المجرم».
وكررت مصادر في حزب الله وحركة أمل نفيهما «وجود أي مقايضة بين ملف المرفأ والطيونة». وأكدت مصادر بري أنه لم يتدخّل لدى عقيقي، ولن يتدخّل، وأنه أبلغ الراعي بوجوب استمرار التحقيق حتى خواتيمه، بما في ذلك مثول جعجع أمام المحققين. وتجزم المصادر بأن ملفي الطيونة والمرفأ غير مترابطين. وفي الأيام المقبلة، سيتضح مسار الأمور: إما أن يخضع القضاء لسمير جعجع الذي تمترّس أمس بالآلاف من أنصاره الذين تظاهروا رفضاً لاستدعائه على طريق بكركي، وإما أن يستمر القضاء العسكري بإجراءاته، ليتعامل مع قضية الطيونة كما يجب أن يتم التعامل معها.
يبقى أن قرار عقيقي لا يعني انتهاء إجراءات التحقيق مع جعجع. فهو لم يقفل الملف، بل طلب ختمه لدى المخابرات وإحالته إليه «لاستكمال التحقيق». وبحسب مصادر قضائية، كان المسار الطبيعي يقضي بأن يُصدر مفوض الحكومة مذكرة جلب بحق جعجع، أو أن يطلب من مخابرات الجيش إصدار بلاغ بحث وتحرّ بحقه. لكن عقيقي قرر وضع يديه على الملف مباشرة، من دون أن يعني ذلك إقفاله. ومن المحتمل أيضاً أن يحيل المحضر على قاضي التحقيق العسكري الأول، فادي صوان، ليستكمل الأخير الإجراءات المتعلقة به، إلى جانب المحضر الأساسي المحال إليه من عقيقي مع الموقوفين.