ضجّت العدلية، قبل نحو شهرين، بخبر توقيف خمسة موظفين جمركيين بينهم مدير عام ادعي عليهم بجرم الإثراء غير المشروع واختلاس مليارات الليرات جراء عمليات تلاعب ببيانات المركز الآلي التابع للمجلس الأعلى للجمارك على مدى سنوات. استند المحامي العام التمييزي بالتكليف القاضي جان طنوس لاتخاذ قراره بتوقيف الموظفين والادعاء عليهم، آنذاك، إلى الأدلّة الرقمية، وإلى تقرير أعده ضابط فني في فرع المعلومات يُبيّن، بالتواريخ والتوقيت، كيفية دخول الموظفين إلى نظام إدارة العمليات الجمركية والتلاعب بالبيانات. هذا الأمر ولّد شبهة لدى القاضي المدّعي بحصول سرقة طالت المال العام، لا سيما أن التقرير أشار إلى أنّ عمليات التعديل تمّت في أوقات خارج الدوام وأحياناً ليلاً، ما عزز فرضية التورط.قاضي التحقيق الأول بالإنابة شربل بو سمرا استعجل اتخاذ قرار بإخلاء سبيل الموقوفين من دون التوسع في التحقيق، ولم يطلب تعيين خبير تقني للتدقيق في الادعاء بأنّ التلاعب هدفه الاختلاس، إنما اكتفى بالاستناد إلى إفادات الموقوفين بالنفي ليُقرر تركهم. يومها استأنفت النيابة العامة المالية قرار الترك ليحال الملف إلى الهيئة الاتهامية في بيروت برئاسة القاضي ماهر شعيتو الذي قرر فسخ قرار الترك وأبقاهم موقوفين لنحو شهر تقريباً، قبل أن تصدر قرارها بتصديق إخلاء سبيلهم قبل أيام.
التدقيق في الملف يُبيّن أنه «سُلق» على عجل من دون التثبت من الأدلة ومقارنتها. إذ لم يُعيّن خبير في ملف هو تقني أصلاً، وكان التخبط واضحاً في قرار قاضي التحقيق بو سمرا الذي بدا وكأنه يستعجل إخلاء سبيل الموقوفين قبل استكمال التحقيق، مع أنّ الأدلة التقنية موجودة وواقعة التعديل ثابتة.
بالعودة إلى قرار الهيئة الاتهامية، فقد استند قضاتها على محضر استجواب رئيسة مصلحة المراقبة في المجلس الأعلى للجمارك وسام الغوش لناحية آلية عمل المركز الآلي والعمليات المجراة من المدعى عليهم وتوقيتها وماهيتها، «بالنظر لكون المدعى عليهم أدلوا بأن العمليات التي قاموا بها مبرّرة، وبعضها بناء لأوامر رؤسائهم»، من دون أن تقوم النيابة العامة أو قاضي التحقيق بمطابقة إدلاءات المدعى عليهم مع العمليات المجراة.
ورأت الهيئة الاتهامية أنه «في ظل معطيات الملف الراهنة غير المكتملة، خصوصاً لناحية عدم الاستجابة لطلبات المدعى عليهم المقدمة إلى قاضي التحقيق والرامية إلى التوسّع بالتحقيق، وعدم الاستعانة بخبير فني تقني يقوم بدراسة ما قدّمه المدّعى عليهم من تبريرات لعمليات الدخول والتعديل التي قاموا بها»، قررت الهيئة «تصديق طلب تخلية السبيل»، لكنها منعتهم من السفر لمدة ستة أشهر. وهنا يجدر التوقف عند اعتبار الهيئة الاتهامية أنّ معطيات الملف غير مكتملة، فلماذا لم يأخذ قاضي التحقيق الوقت لاستكمال المعطيات للتثبت من الادعاءات أو لدحضها تقنياً بدلاً من الاستناد إلى إفادات شهود فقط.
الهيئة خلصت إلى تخلية سبيل المدّعى عليهما ميشال شبل وسمير المصري لقاء كفالة نقدية قيمتها 50 مليون ليرة لكل منهما، والمدعى عليهما جان موسى والياس النصراني لقاء كفالة نقدية قيمتها 10 ملايين ليرة لكل منهما، والمدعى عليه شفيق مرعي لقاء كفالة نقدية قيمتها 30 مليون ليرة، وتعديله جزئياً لناحية المنع من السفر لتمسي المدة ستة أشهر لكل من المدعى عليهم.
التدقيق في الملف يُبيّن أنه «سُلق» على عجل من دون التثبت من الأدلة ومقارنتها


مصادر قضائية وصفت قرار إخلاء سبيل المدعى عليهم بأنه «صدمة تفيد بأنّ قيمة الأدلة الرقمية تساوي صفراً بالنسبة للقضاء الذي يستند إلى إفادة موقوف بدلاً من الركون إلى دليل تقني لا يرقى إليه الشك لجهة حصوله. إذ إنّ نفي الموقوفين ليس دليلاً على عدم وجود الاختلاس». ولفتت المصادر إلى أنّ التقرير الفني يؤكد أنّ تغيير إعدادات البرنامج «حصل مئات المرات، من بينها خلق إعدادات جديدة بمعايير مختلفة ومن ثمّ مسحها. وهذا الأمر يعزز مقولة إنّ الفساد موجود، لكننا لا نرى فاسدين خلف القضبان». واستغربت عدم طلب قاضي التحقيق تعيين خبير تقني «مع أنّ هناك نماذج من السجل تُبيّن حجم التلاعب الذي كان يحصل مع الأخذ في الاعتبار تهريب الأموال، علماً أن هذا النظام مسؤول عنه الموقوفون الذين يتبعون للمجلس الأعلى للجمارك». وتشدّد على أن تعيين الخبير «كان ضرورياً لمراجعة النظام لتحديد البيانات التي أُدخلت ولكشف من هم المخلّصون الذين يدفعون لقاء هذا التعديل ومن هم الشركاء الذين أدخلوا بضائعهم خلال هذه الفترة». وخلصت إلى أن «نظام نجم يُظهر اختلاسات من دون أن يكون هناك مختلسون»!
يفتح هذا الملف نقاشاً واسعاً في قصور العدل لجهة وجوب استناد المحاكم على الأدلة الرقمية، في ظل وجود قضاة يرون أنّ عدم الأخذ بالأدلة الرقمية سببه عدم وجود قناعة لدى القاضي بأنّ التلاعب لتعديل البيانات هدفه السرقة.