لم يكد يجف حبر الخطاب الذي ألقاه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، في ذكرى 13 تشرين الأول، حتى تلقّى ضربة قاسية في قانون الانتخاب. «المجزرة التشريعية»، كما وصفها، أطاحت بكل ما بنى عليه من آمال في الأسابيع الماضية، ورفع فيه سقف المطالبة بالبنود التي تمسّك بها رفضاً لتعديلها. وتوقيت «المجزرة الانتخابية»، بعد حوادث الطيونة وكلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الموجّه ضد القوات اللبنانية، يزيد من حجم الإرباكات في علاقات باسيل بحلفائه وخصومه على السواء، وفي قراءة وضع القوى السياسية بعد الهدوء الأمني.فحوادث الطيونة، وحتى قبل انكشاف كامل الحقائق الأمنية، أعطت تقدماً ملموساً للقوات في الشارع المسيحي، إذ لا يمكن إنكار انعكاس العصب الذي حصل يومها وسط حملات إعلامية مركّزة، حوّلت استقطاب شريحة من المسيحيين، من جيل الحرب ومن المحايدين ومن القاعدة العونية التي تملك إرثاً متنوّعاً من الانتماءات السياسية، عنصراً مركزياً في قراءة الواقع المسيحي الشعبي بجدية. وبعيداً من عوامل الاستقطاب الكثيرة التي حاولت كل القوى الإفادة منها، فإن القوات استفادت من التزخيم الذي جرى ضدها، من يوم الحادثة وحتى كلام نصرالله، رغم أنها تتوقف، ليس عند «رسائله الأمنية»، بل عند السقف السياسي العالي الذي يستهدف حزباً سياسياً كان ممثلاً في الحكومة ولا يزال ممثلاً في مجلس النواب. ومن يقولون إن حزب الله أعطى جعجع الكثير وأعاد تكريس زعامته، ليسوا حلفاء جعجع، بل خصومه التقليديون من المسيحيين. ومن رأى في كلام نصرالله تطويقاً لحركة القوات ونواياها في شنّ حرب أهلية بعدما فنّد دورها ولوّح بما يملك من عديد، يخفّف من وطأة هذا الكلام على شرائح اجتماعية أعادتها أحداث الطيونة إلى تقوقعها الطائفي والمذهبي والتفافها حول من «يحميها». وقد لا يكون ذلك أمراً جيداً في حسابات قوى وشخصيات وأوساط مسيحية لا تكنّ وداً للقوات، ولا ترغب في استعادتها لدورها «الميليشيوي» الحربي. لكن منذ جريمة المرفأ، وقبلها 17 تشرين، هناك إشارات لافتة إلى تحول في البيئة المسيحية، يضاف إليها حجم الانهيار في معيشتها وأسلوب حياتها ومدارسها وجامعاتها وحياتها اليومية. يعرف التيار الوطني ذلك حقّ المعرفة، ويدرك أن ما قام به باسيل يوم الاحتفال بذكرى 13 تشرين، هو تحويل حادثة عين الرمانة - الشياح مناسبة لتطويق موجة جارفة تتعلق بالتحول المسيحي، رغم أن بعض الغلاة العونيين يخفّفون من أهميته. أراد باسيل قراءة الواقع الميداني، وشدّ عصب تياره واستعادة ما فقده في يومين، إذ إن ما جرى لا يمكن استيعابه وحصره بمجرد استخلاص نتائج تحقيق عسكري، بعدما تجذّر الأثر السياسي للقوات إثر تحوّلها بنداً أولَ في مرمى الحدث.
ما جرى في جلسة النواب أمس يستكمل سياسياً الإرباك الذي سبّبه حدث الطيونة لباسيل


ذهب باسيل إلى الحد الأقصى في رفع نبرته وخطابه، لاستنهاض شارعه وقطف ثمار مبكر على طريق الإعداد للانتخابات، فجاءت نقطة ارتكازه الخطابي على استقطاب الناخبين. لذا يمكن التوقف عند ما جرى في المجلس النيابي بأنه يستكمل ما حدث في عين الرمانة - الشياح سياسياً بانعكاساته السلبية. فما كان يُفترَض أن يحصل بعد خطاب نصرالله، الذي اعتبره التيار الوطني مكملاً لخطاب نهر الموت، على عكس قراءة خصومه، لم يكن على مستوى التكامل المنتظر. فباسيل، خسر بالمعنى الحرفي اقتراع المنتشرين لنوابهم الستة، وهو ما احتفلت به القوات أمس على أنه استعادة غير المقيمين حقّهم في اختيار نوابهم من ضمن الـ 128 نائباً. كما خسر رئيس التيار تحديد موعد الانتخابات، رغم أحقية ما يريده، لجهة تحديد موعد الانتخابات في آذار، إذ إن قرى الجبل وبلداته وأكثريتها المسيحية لا تقيم في هذه البلدات شتاء، وتؤمّها صيفاً بالحد الأقصى، وتالياً لا يمكن من إهدن إلى بشري وأقضية البترون وكسروان وجبيل والشوف التعويل على حضور ناخبين حين تُجرى الانتخابات في الشتاء. وهذا الأمر يفترض أن يتناسب مع القوات اللبنانية وتيار المردة والكتائب بمستويات مختلفة. وإذا كان حزب الله بلسان أمينه العام لم يمانع في إرجاء الموعد ولا في اقتراع المنتشرين، إلا أن الحصيلة النهائية هي أن باسيل خسر معركة قوية لا جولة. تماماً كما جرى عندما أُقر قانون الانتخاب بعد جلسات تفاوضية كثيرة، ظل خلالها متمسكاً بطروحاته إلى أن عُقد الاتفاق بمعزل عنه قبل أن يستلحقه. وهذا لا بد أن يدفعه مجدداً إلى إعادة قراءة تطورات الأيام الأخيرة من زاوية الخسائر والأرباح بدقّة تتعدّى الشعارات لاجتذاب قواعد انتخابية. لأن ما جرى في المجلس ليس مبرّراً بالمعنى السياسي من جانب حلفائه أو حلفاء حلفائه، وإن كان مفهوماً من جانب خصومه كالقوات التي كانت تريد انتخابات مبكرة، ولا تزال عند موقفها ولا تتوقف عند اعتبارات فنّدها باسيل. وهي منذ الخميس الماضي، على اختلاف مستويات الأحداث وخطورتها، تنظر إلى خسائر غريمها المسيحي بعين الرضا. فأمام التيار من الآن فصاعداً استحقاقات كثيرة، لا يحتاج معها إلى أن يضيف إليها همّاً جديداً يتعلق باستثارة العواطف المسيحيّة.