«كان لدينا صنف واحد من القهوة على رفوف المحال، وكان يصلنا بين حين وآخر صنفٌ ثانٍ، وكان ذلك بمثابة عيد لوالدتي». الحديث لشابة قابلتها في سان بطرسبرغ (لينينغراد) عشية مئوية الثورة البولشفية عام 2017. طبعاً بطرسبرغ اليوم ليست لينينغراد الثورة التي باتت مادة مسلّعة في متاحف تجارية وتذكارات سياحية. المدينة الجميلة شهدت ردّة رأسمالية وردّة «غربية» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسارعت نخبتها إلى تعويض ما فاتها من استهلاك لثقافة الغرب الرأسمالي المنتصر في الحرب الباردة. نُخب المدينة تمادت في تبنّي أنماط استهلاك نخب الغرب إلى أن تجاوزتها في محنة استهلاك الترويج الشكلي للسلع وابتداع القيمة حيث لا يوجد إنتاج، وتفوقت عليها في «الهبسترية»، وباتت تستحق أن تسمّى «سان هبستربرغ»، سامحهم يا رفيق لينين. لكن رغم ارتماء النخب في حضن الغرب وانبطاحها أمام فوقيته، يوجد حنين كبير إلى أيام الزمن السوفياتي لدى كثر، ليس فقط بين آلاف المؤمنين بقيم الثورة الذين أحيوا ذكراها المئوية وما زالوا يمارسونها في حياتهم اليوم، بل عند شريحة واسعة من السكان الذين لا تعنيهم الشكليات الترويجية الفارغة. «والدتي كان يفرحها وصول صنف ثانٍ من القهوة، الآن توجد آلاف أصناف القهوة وكل ما تريده هو العودة إلى لينينغراد،» هكذا أكملت الشابة حديثها.في حروب تسليع فنجان القهوة، تجيّش الشركات مئات بل آلاف المفكرين والمبدعين لإقناع المستهلك بدفع عشرات آلاف الليرات مقابل فنجان قهوة. بدأت المعركة بابتكار الأحجام المختلفة للأكواب، ولكن شركة «ستاربكس» انتصرت بأسماءٍ إيطالية (أو تبدو إيطالية) لأحجام الأكواب، رغم أن الشركة منبوذة في إيطاليا حيث القهوة عند البعض جزء من هوية لن يسمحوا للعم سام بتلطيخها. تسارعت المحن في حروب فنجان القهوة، وبات ما كان مرغوباً وآخر صرعة في شهرٍ ما، يُبصق في وجه مقدّمه في الشهر التالي. أصبح من الإجرام خلط حبة البن الهوندورية مع جارتها السلفادورية لأن ذلك مهين لبراعم تذوق الألسنة المرهفة. وبدأ ابتداع أوانٍ وطرقٍ لتحضير القهوة إلى أن استُبدلت النار بالتقطير على مدى أيام. طبعاً النار من أهم اكتشافات الإنسان المعاصر، ولولاها لكان فصيل النياندرتال أقصى ما وصل له تطوّر الإنسان ولكن هذا لا يهمّ المستهلك الممحون في عصر الهبسترز، المهم التمايز.
بالمناسبة، أفضل وسائل تحضير القهوة من ابتكار الإيطالي ألفونسو بياليتي وهو الوعاء الثلاثي الأجزاء المسمى وعاء المخة (Moka pot)، نسبة إلى المدينة الساحلية اليمنية في محافظة تعز، والتي لعب ميناؤها الدور الأبرز في تصدير البن اليمني وبالتالي متعة احتساء القهوة إلى العالم. شكراً يمن. انتشرت القهوة العربية ووصلت إلى مركز الإمبراطورية العثمانية في اسطنبول حيث ولدت المقاهي والقهوجية، ومنها إلى الغرب المتخلّف. ويروى أنها ساهمت في عصر التنوير الأوروبي حيث كانت المقاهي في مدينة أكسفورد الإنكليزية تسمّى «جامعات المئتين وخمسين ليرة» حسب سعر صرف اليوم (Penny Universities)، إذ أتاحت الاختلاط وتبادل الأفكار لمن لم يكن ذلك متاحاً له من قبل، ما سبب هلعاً لدى الملك ودفع تشارلز الثاني إلى إغلاق المقاهي في لندن ومنعها. ووجه المنعُ باعتراضات شعبية ولم يدُم أكثر من 11 يوماً، وهو بالمناسبة العدد الأقصى للأيام المتوقع أن يشغلها تشارلز الثالث على العرش البريطاني إذ يبدو أن والدته التسعينية لا تريد له متعة المُلك.
طبعاً لا تقتصر هذه الظاهرة على القهوة وطريقة تحضيرها واحتسائها وارتشافها، فعندما يغيب التمايز في البيتزا يصبح فرن البيتزا المخبّأ داخل معمل قديم والذي يصعب الوصول إليه دون إصابات جسدية لغياب الأدراج هو «البيّيع». وعندما تستهلك الكوكتيلات كافة ألوان قوس قزح ومذاقاته، تصبح الغسالة في المصبغة التي تزيحها كلمة سر من مكانها لتكشف حانة يرتادها من أزالت المصبغة عن ثيابهم وإبر البوتوكس عن وجوههم التجاعيد، هي الإبداع القيّم. وهذه أماكن موجودة فعلاً، وذهبت إليها في إطار بحثي من أجل كتابة هذا المقال. وختاماً وقبل الانتقال إلى النقطة التالية، لا توجد مأكولات خارقة. المصطلح اخترعه المدعو مايكل فان ستراتن للترويج لشعوذاته الزين أتاتية، فالكيل (kale) الهجين والمكلف والعديم الطعم الذي راج دخيلاً على لوائح الطعام هو نوع من الملفوف لا تفوق حسناته ملفوفنا المحشي اللذيذ أو السبانخ التي كانت تمكّن «بوباي» من إنقاذ زيتونة في الرسوم المتحركة.
الاستمرار في خلق القيمة الربحية يحتاج إلى التميّز، أو وهم التميّز. إذ للقيمة الوهمية سقف تجاوزه يؤدي إلى انهيار، والتميّز يحتاج إلى إبداع. لكن الإبداع ليس إنتاجاً أو دواماً، بل أفكار. واكتشفت الشركات الكبرى أن تشغيل الآلاف من المتنافسين عـ«القطعة» أجدى من توظيفهم ومنحهم كامل حقوقهم الوظيفية. هكذا انتشر اقتصاد «القطعة» (Gig Economy) في العقد الأخير وأدّى ذلك إلى ازدياد ضرورة التميّز الدائم للتمكّن من تحقيق دخل يؤمن المعيشة. لكن أزمة التميّز في سوق العمل المستقل في حقبة «اقتصاد القطعة» من الرأسمالية المأزومة، هي أن أفكارك يسهل نسخها ولا تملك المنظومة التي يمكنها أن تحمي أفكارك من الاستغلال أو البناء عليها وتحقيق نمو جماعي، فتتفاعل أفكارك الفردية المتميزة مع أفكار فردية أخرى أيضاً متميزة، والمستفيد الأكبر يكون من يملك المنظومة القادرة على استغلال هذه الأفكار. في سوق القهوة، مثلاً، يحتسي الوحش الرأسمالي السويسري «نستله» شركات القهوة كلما قال لهم قارئ فنجان إن استحواذ الشركة أو منتجاتها صفقةٌ مربحة.
منظومة الاقتصاد الرقمي وعالمها التكنولوجي والمعلوماتي خطت خطوة أشبه بالقفزة في استغلال الإبداع وابتلاعه ضمن المنظومة. يدرج ضمن هذا العالم المربح مفهوم الحاضنات أو المفاقس (Incubators) التي تحتضن الأفكار الإبداعية التي قد تكون مجدية وتفقّسها أرباحاً سريعة قد تبدو خيالية بالنسبة للمبدعين المتميّزين، لكنها قشور بالنسبة للشركات المهيمنة في القطاع. وفي الوقت نفسه، لا مجال لخرق الهيمنة من قبل أفراد مهما تميّزوا. ويجدر التذكير أن رياض سلامة أنفق مئات الملايين من دولارات البنك المركزي على مشروع «بيروت الرقمية» في الخندق الغميق بحجة حضانة وتفقيس اقتصاد رقمي محلّي، ولا داعي لأن نجرُد إنجازات تلك المبادرة الآن. تبادل الأفكار في المقاهي الذي أخاف تشارلز الثاني يوماً ما، بات يحدث في حضن المنظومة المهيمنة. تصوّروا لو كل هذه الطاقة التي تنبعث من تحميص وطحن وتخمير حبة البن العربي استثمرت في إبداعات لارتقاء البشرية جمعاء بدل البحث عن أرباحٍ للشركات. النيوليبرالية التي فرضت هذا الواقع وهذه الأولويات ليست قدراً، بل خيار سياسي، ولدينا خيارات أخرى.
غداً: مزّيكا هويّاتية