عاد الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة بثقة مجلسيّة مريحة. ويفترض أن تكون هذه الثقة مدخلاً للبدء بإصلاحات جدية يمكن أن تنتشل الناس من الانهيار الكبير الذي يعيشون تداعياته منذ سنتين. لكن هذه الثقة تقلق. ميقاتي 2021 أقوى بكثير من ميقاتي 2011 و2005. هو هذه المرة يتّكئ على دعم محلي شبه شامل، مرفق بدعم أميركي وفرنسي كبير. في لبنان، هكذا احتضان يقلق. فهل يستعمله ميقاتي لفرض برنامج يحمي الطغمة الحاكمة على حساب الطبقات المتضررة، أم أنه يحقق جزءاً يسيراً ممّا تضمّنه البيان الوزاري، الذي لم يختلف عمّا سبقه لناحية الإكثار من الوعود؟
فرح النواب بانقطاع الكهرباء في قصر الأونيسكو أكثر ممّا فرح الناس. وجدوا فيها مناسبة للإيحاء بأنهم ليسوا بعيدين عن الشعب. يعانون ما يعانيه. لأنهم في الحقيقة لم يعبّروا في ذلك سوى عن مدى انفصالهم عن الواقع. وما زاد ذلك تأكيداً لم يكن سوى الكلمات، التي مهما سعى أصحابها إلى تلمّس وجع الناس، فقد بدوا كمن يمثّل عليهم علّ ما يقوله يخرق بعضاً من الهواء المفتوح على شاشات التلفزة.
أما الحكومة ورئيسها، فدخلوا إلى الجلسة مطمئنين إلى ثقة قد تصل إلى نحو 100 نائب سيحصلون عليها، تمهيداً لما يعتبرونه بداية العمل. لكن الجلسة انتهت بثقة 85 نائباً مقابل حجبها من قبل 15 نائباً. لا آمال كثيرة منتظرة من الحكومة، ولا ثقة بأنها ستصنع المعجزات. هي، مهما حُكي عن تكنوقراطها، تمثّل، في غالبها، الطبقة التي أوصلت البلد إلى الانهيار، وبالتالي لا يؤمل منها أن تنقلب على نفسها في عملية الإصلاح. مهمتها محصورة في لملمة الوضع وحماية الطبقة نفسها، بإجراءات تضمن الوصول إلى الانتخابات النيابية بنقمة شعبية أقل. وهو ما تتوقع تحققه في حال تحسين قطاع الكهرباء وإصدار البطاقة التمويلية بالدرجة الأولى. أي أمر آخر كالتفاوض مع صندوق النقد الدولي أو إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو إجراء التدقيق الجنائي أو استعادة الأموال المنهوبة، فكلّه سيجري بآلية مضبوطة لا تسمح بمحاسبة المذنب.
«الأكشن» الذي سعى إليه البعض لم يعق السياق الرتيب للجلسة التي طالت حتى وقت متأخر من ليل أمس، كانت نتيجتها حصول حكومة «معاً للإنقاذ» على ثقة كل الكتل النيابية الكبيرة، ولا سيما منها كتلة لبنان القوي، التي وضعها رئيسها النائب جبران باسيل في باب الإيجابية وتحمّل المسؤولية وعدم الهروب منها و«لأننا نريد أن نساهم بخلاص البلد وليس بتخريبه». ولم ينس باسيل استغلال المناسبة للتذكير بأن «الثقة ستعطى للحكومة لأن التشكيلة أتت حسب الأصول، ولأن رئيس الحكومة احترم الشراكة الدستورية مع رئيس الجمهورية والتوازنات بالحقائب والطوائف وحق كل فريق بتسمية وزرائه وفق المعايير... ولو مع بعض الخربطة». وحدها كتلة القوات اللبنانية (إضافة إلى النواب المستقلين: جميل السيد وأسامة سعد وشامل روكز وجهاد الصمد)، ابتعدت عن إعطاء الحكومة الثقة، في ظل رهانها المطلق على قطاف ثمن رهاناتها في الانتخابات النيابية، انطلاقاً من تصديق القوات لكذبة أنها لم تكن جزءاً من السلطة. وقد أشارت النائبة ستريدا جعجع إلى ذلك بوضوح بقولها إن «أكثر ما يهمّ تكتل الجمهورية القوية، الانتخابات النيابية المقبلة لتغيير الأكثرية الحالية التي أوصلتنا إلى سلسلة المآسي والأزمات».
حزب الله: استيراد المازوت قرار سيادي أحرج أميركا وصيصانها


وبالرغم من أن الجلسة مخصصة لتلاوة البيان الوزاري لحكومة ميقاتي وللتصويت على الثقة بها، إلا أنه كان واضحاً أن الحملة السياسية تركزت على حزب الله، الذي عمد البعض إلى تحميله مسؤولية ما يجري في البلد، من بوابة «سيطرته على القرار». كما تعامل هؤلاء مع استيراد المازوت من إيران بوصفه شاهداً حياً على هذه السيطرة. لكن على ما بدا في الجلسة، فإن الحزب كان مستعداً لهذه الوجهة، ففصل بين الكلام السياسي والكلام الاقتصادي. تولى النائب حسن فضل الله الشق الاقتصادي أولاً، فاعتبر أن المؤشر الأول على جدية الحكومة هو كيفية معالجتها لملف الكهرباء. وفيما دعا إلى التدقيق بحسابات الشركات المستوردة، متهماً إياها بسرقة مال الدعم، رأى أن «النظام المصرفي في لبنان أثبت فشله. ومن يظنّ أن بإمكاننا إصلاحه لتعويم البلد هو مخطئ. ودعا إلى اللجوء إلى هيكلة جديدة للقطاع».
في المقابل، تولى رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد الشق السياسي لكلام حزب الله. وقد كان واضحاً أنه تعمّد بالتنسيق مع بري أن يكون آخر المتكلمين، في سعي للرد على كل الكلمات التي طالت الحزب. وقال إن «كل الأزمات في لبنان أريد لها أن تنفجر مجتمعة وتستهدف وفق الوصول القسري الى إنهاء وتقصير ولاية رئيس الجمهورية وإسقاط الحكومة وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ولمواجهة كل هذا الكيد جاء قرار تأمين المازوت من إيران ليصدم كل من خطط وليبعث برسالة صمود وطني». وأكد أن قرار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إدخال المحروقات الإيرانية قرار وطني بامتياز وكسر الحصار، وأكد قدرة الردع الوطني المقاوم، وهو قرار لبناني سيادي يكرس حق الدفاع عن النفس، ولقد أحرج هذا القرار الإدارة الأميركية وأخرج صيصانها يصرخون».
في ختام الجلسة، وقبل التصويت على الثقة، رد الرئيس نجيب ميقاتي على كلمات النواب، فأكد أن الحكومة ستعكف مباشرة على البدء بمعالجة الملفات المطروحة، في الكهرباء والصحة والتعليم، والإصلاحات. كما «استغرب أن يكون البعض فهم من بياننا أننا نميل إلى المصارف، وقال: ليته بقيت هناك مصارف في لبنان لنساعدها». وأوضح أن المطلوب «إعادة إحياء القطاع المصرفي على الطريق الصحيح لا وفق النمط الذي كان سائداً». وهذا الكلام من قبل ميقاتي عن القطاع المصرفي هو الأكثر وضوحاً من قبل مسؤول رسمي للتعبير عن حال البنوك اللبنانية، وخاصة لجهة استشهاده بالآية القرآنية: «يحيي العظام وهي رميم». لكن العبرة تبقى في كيفية «إحياء» هذا القطاع، لأن أي عملية هيكلة للقطاع ينبغي ــــ محاسبياً واقتصادياً، ووفق المعايير المعتمدة عالمياً ــــ أن تمرّ بتصفية المصارف المفلسة وتحميل أصحابها، بمالهم الخاص، مسؤولية أموال المودعين.
انتهت الجلسة من دون مفاجآت. وعلى الأرجح ستطوي البيان الوزاري كما فعلت سابقاتها، واثقة بأن المحاسبة ليست في القاموس السياسي اللبناني. وما قاله فضل الله خير معبّر عن هذا الواقع: «لو تمت محاسبة حكومة واحدة في التاريخ اللبناني وحجبت عنها الثقة لما وصلنا الى هنا، بل كنا دولة مصدّرة للكهرباء والنفط والسلع الأساسية».