دعم القطاع الخاص وإعادة هيكلة القطاع العام، هما المطلبان اللذان من أجلهما استنفر رئيس جمعية المصارف سليم صفير كلّ طاقاته وقرّر تسويقهما لدى المرجعيات السياسية. جولات صفير تُعتبر «لزوم ما لا يلزم»، طالما أنّ الحكومة تُمثّل انتصار خيار «حزب المصرف» على خيار عموم السكّان، وبالتالي ستعمد إلى اتخاذ القرارات التي تؤمّن ديمومة عمل المصارف بالصورة التي أدت إلى الانهيار. ولكنّ المزيد من الضغوط «لا تضرّ»، من وجهة نظر صفير، فالمطبات أمام تنفيذ خطتهم لم تُمحَ تماماً. مطلب دعم القطاع الخاص يتضمن دعم المصارف المُفلسة، أي أن تتولّى «الدولة» إنقاذها عبر «وهبها» الأملاك العامة. حين نَسفت لجنة المال والموازنة النيابية ــــ نيابةً عن البنك المركزي والمصارف وتحالف سياسي عبّر عنه اجتماع رئاسي ثلاثي في بعبدا في حزيران 2020 ــــ خطّة «التعافي المالي» التي وضعتها حكومة حسّان دياب، طرحت المصارف بديلاً منها خطّة تتضمن الحصول على عقارات وأصول من الدولة بقيمة 40 مليار دولار. كلام صفير أول من أمس يكشف نيّة المصارف مُجدّداً الانقضاض على الأملاك العامة ــــ أي أملاك المواطنين والأجيال المقبلة ــــ وإصرار أصحاب المصارف وكبار المساهمين فيها على عدم إعادة أموالهم الخاصة واستخدامها لردّ دولارات المودعين وإنقاذ المصارف وإعادة إطلاق العمل المصرفي «الحقيقي». الخطورة في المسعى هذه المرة، أنّ «حزب المصرف» تسلّم الحُكم رسمياً. أما المطلب الثاني، إعادة هيكلة القطاع العام فتأتي في سياق هذا الفريق «شيطنة» الإدارات العامة وحصر أسباب الأزمة بها، ومن ثمّ المطالبة بطرد الموظفين. حجّتهم أنّ القطاع العام «مُفلس» ولا يستطيع الاستمرار من دون خفض التكاليف. لكن ألا تنطبق هذه المعايير على القطاع المصرفي، ما يستدعي إعادة هيكلته؟ كلّ الأرقام والوقائع تُشير إلى ذلك، إلا أنّ حكومة نجيب ميقاتي قرّرت أن تتذاكى وتلتفّ على الواقع عبر التركيز على «إصلاح» القطاع المصرفي، والاكتفاء بـ«إعادة الهيكلة حيث يلزم». التعابير ليست أمراً عابراً، بل تستدعي التوقّف عندها لأنّها تعبّر عن توجّه المسؤولين. بند معالجة القطاع المصرفي واحد من البنود التي تؤكّد التوجّه الاجتماعي ــــ الاقتصادي للحكومة الجديدة.أيام حكومة دياب، خاضت لجنة المال والموازنة ــــ وتحديداً النواب: إبراهيم كنعان، نقولا نحاس وياسين جابر ــــ حرباً لإسقاط «خطة التعافي»، ولتحقيق هدفها اعتمدت على استراتيجية التصويب على «المستشارين» واختراع خبرية أنّهم يُريدون تطيير الودائع وتخريب الوضع. ولأنّ المعركة لم تكن متكافئة، ولأنّ نواب اللجنة كانوا يمثلون النواة الصلبة للمنظومة بشقيها السياسي والمالي، سقط «المستشارون» الواحد تلو الآخر، فلم يعد من صوتٍ يؤمّن التوازن في دائرة القرار. اللافت أن في مسودة قرار البرلمان الأوروبي بشأن الوضع في لبنان (أول من أمس)، ورد أنّ «لجنة المال في مجلس النواب رفضت خطة الحكومة التي كانت ستُتيح الحفاظ على مدخرات 98% من السكان من خلال ضمان الحسابات المصرفية التي تقل عن 500 ألف دولار أمريكي. وفي مواجهة انتقادات أعضاء اللجنة لخطة التعافي، نشر صندوق النقد الدولي ثلاثة بيانات تدعم الخطة المقترحة. النواب الذين رفضوا الخطة لديهم مصالح خاصة في الحفاظ على المصارف اللبنانية، لأنّه تربطهم علاقات مع المساهمين فيها أو أنّهم هم مساهمون».
البرلمان الأوروبي: لجنة المال والموازنة لديها مصالح خاصة مع المصارف


مع تسلّم ميقاتي السلطة التنفيذية، حُرّك «الفيل» في لعبة الشطرنج خطوةً إلى الأمام: نقولا نحاس بات «قائد» الفريق الاقتصادي لرئيس الحكومة، وبغياب/ أو تغييب أي شخصية ومستشار لميقاتي يملك رأياً ناقداً للنظام الاقتصادي وسياسات البنك المركزي ووضع القطاع المصرفي. وفي هذه الدائرة تدور المعركة الفعلية. نحاس يُعارض علناً «خطّة التعافي»، مُعتبراً أنّها تتضمّن «فرضيات وأرقاماً خاطئة». لذلك، العمل سيكون من الصفر لوضع مسودة جديدة، جوهرها تنفيذ الخطة التي تُناسب الحاكم رياض سلامة وأصحاب المصارف («الأخبار»، عدد 8 أيلول 2021)، أي تذويب خسائر القطاع المصرفي عبر تحميلها لعامة السكان، والاستحواذ على الأملاك العامة، ومنع التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، وحماية المصارف المفلسة، بالتوازي مع تنفيذ «مشاريع» تُحاكي الأزمة من دون أن تُعالجها: محطة إنتاج كهرباء، بطاقة تمويلية، التحكّم بسعر الصرف عند حدّ مُعيّن وإجراء مفاوضات رسمية مع صندوق النقد الدولي لمحاولة الحصول منه على قرضٍ.
في المقلب الآخر، يقف الرئيس ميشال عون و«نصف» التيار الوطني الحرّ في مواجهة خطة ميقاتي ــــ سلامة. نقاط رئيسية تحدّث بها عون، يُريدها أن تكون خريطة طريق الحكومة الجديدة:
ــــ اعتماد «خطة التعافي المالي»،
ــــ إعادة هيكلة القطاع المصرفي،
ــــ التدقيق الجنائي في مصرف لبنان.
ما يُنقل عنه وعن رئيس «التيار»، النائب جبران باسيل أن «لا تسوية ولا تراجع عن هذه المطالب». ولكنّ أوّل الالتفافات العلنية على طلبات عون كان في ما خصّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي، من خلال اعتماد تعبيرَي «الإصلاح» و«التصحيح»، قبل الموافقة على «إدخال» عبارة «إعادة الهيكلة»، لكن مع حصرها «حيث يلزم». إصلاح القطاع المالي يجب أن يتضمن منطقياً إعادة هيكلة المصارف وتطوير الأسواق المالية.
هذه المعركة تشمل:
ــــ فصل مصرف لبنان عن هيئة الأسواق المالية،
ــــ فصل هيئة التحقيق الخاصة عن مصرف لبنان،
ــــ تحويل لجنة الرقابة على المصارف إلى سلطة قائمة بذاتها،
ــــ إعادة هيكلة البنك المركزي ليقوم بدوره الطبيعي،
ــــ تعديل قانون النقد والتسليف وإعطاء صلاحيات أكبر لمفوّض الحكومة،
ــــ تقليص أعداد المصارف بما يتناسب مع حجم الاقتصاد،
ــــ تسجيل المصارف في البورصة وجعل أسهمها متداولة خارج إطار العائلات التقليدية التي تحتكر القطاع،
ــــ فصل سلطة مجالس إدارة المصارف عن المساهمين.
الهدف من توفير هذه الشروط هو عدم حصر الصلاحيات في شخص واحد يمكنه تعطيل عمل الهيئات ومنع الرقابة والمحاسبة. «إصلاح» المصارف يمرّ بإعادة هيكلتها. ولكنّ رئيس الحكومة، والمصارف ومصرف لبنان، يُصرّون على الحفاظ على المصارف كما هي قائمة، بملكياتها وطريقة عملها. فمن يحكم المصارف يحكم البلد.