حذّرت تقارير منظمات دولية ومحلية، أخيراً، من مخاطر تعليمية تتجاوز تأمين الكتاب والنقل والأقساط، على أهمية كل هذه التحديات، إلى تدنّي التعليم إلى مستويات غير مقبولة. والمخاطر ناتجة عن سببين رئيسيين: الأول يتعلق بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والثاني يتصل بالمقوّمات التربوية والإدارية وعدم كفاءة المعنيين بإيجاد حلول تضمن حقوق الأهالي والمعلمين والحفاظ على المستوى التعليمي في المدارس الخاصة تحديداً، بعدما أصيب بنكسة كبيرة خلال الأزمة الأخيرة.التقرير الأخير لمنظمة العمل الدولية أشار إلى ظاهرة تزايد عمالة الأطفال، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تدفع الأهل إلى سحب أولادهم من المدارس إلى سوق العمل للحصول على دخل إضافي أو لعدم قدرتهم على تأمين متطلبات التعليم المالية وغير المالية. فيما لفت تقرير للجنة التربية والتعليم في منظمة اليونسكو إلى تصاعد «فقر التعلّم» بين الأطفال إلى 63% (فقر التعلم: تلميذ في الصف الخامس أساسي لا يستطيع قراءة أو فهم فقرة بلغته الأم). وفي لبنان وصل فقر التعلم إلى السابع أساسي، بعد سنتين من التعليم الفاشل عن بعد، وذلك لعدم اكتساب مهارات القراءة بصورة خاصة.
ووفق إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء وتقارير البنك الدولي وتقرير اليونسكو، تصل نسبة التسرب من المدارس إلى 50 في المئة، إذ يتسجل في الصف الأول أساسي نحو 90 ألف تلميذ، ويصل منهم 48 ألفاً إلى صف البريفيه، وهذا رقم مخيف ويشمل التعليمين الخاص والرسمي، ويعود إلى فشل النظام التعليمي.
ومع اشتداد الأزمة، تتصاعد مستويات العنف في المدارس والفروقات الطبقية كما هو معلوم، إذ عانى الأطفال في فترات سابقة من فقر التغذية وحالات إغماء وجَرَب في بعض المناطق الفقيرة لإفتقار الأهل للدخل الذي يؤمن «زوادة» مناسبة لأولادهم، وحتى الصابون والماء لتوفير النظافة الشخصية لهم، فضلاً عن الحالة النفسية التي قد تصيب الأطفال والعائلات نتيجة غياب الحاجات الأساسية للحياة.
الأزمة تتفاقم والحلول الإدارية المجتزأة والموضعية لا تعوّض عن رؤية شاملة يضعها تربويون متخصصون، وسياسة تربوية حقيقية تضمن الأمن التربوي ومستقبل التربية. إننا أمام مشاكل أكبر بكثير من تأمين كتاب مدرسي للتلامذة لمنهاج مخفف حتى النصف، وسنة دراسية مقلّصة حتى النصف، في وقت المدارس مطالبة بمعالجة الفاقد التعليمي والمهارات التي لم يحصّلها التلامذة خلال العامين الماضيين، رغم أن الأهالي سددوا الأقساط كاملة.
استطراداً، يخوض الأهالي معارك كثيرة مع إدارات المدارس، في حين لا تتخذ وزارة التربية تدابير حاسمة لضبط هذه الأمور ولا تنجح في تشكيل المجالس التحكيمية، ولا تضغط بما يكفي لتحصيل حقوق الأهالي بدرس الموازنات ومراقبة قطع الحساب كما ينص القانون، ولا تأخذ إجراءات بحق المدارس المخالفة التي أحيلت إلى المجالس التحكيمية التربوية، ولا تنفذ قرارات قضاء العجلة بالأحكام الصادرة لمصلحة الأهالي المتروكين من دون حماية قانونية، وهم الحلقة الأضعف علمًا أنهم من يموّل المدارس الخاصة.
والأهم، ماذا ستفعل وزارة التربية وإدارات المدارس الخاصة لإستعادة مستويات التعليم وتعويض الكفاءات التعليمية التي هاجرت وكيف ستساعد العائلات المحتاجة في استكمال تعليم أولادها؟ وكيف ستضمن تطبيق القوانين، فيما تعطل السلطة السياسية أدوات الرقابة والمجالس التحكيمية التربوية والتفتيش المركزي ولا تلتزم التدقيق والشفافية وإعلان تقارير التفتيش المالي وحق الوصول إلى المعلومات؟ وكيف ستضمن أن لا تذهب أموال الهبات والمساعدات الدولية هدرًا على مشاريع تنفيعات أو على طباعة كتاب مدرسي يوزع مجانًا ونحن ليس لدينا مقومات عام مدرسي؟
لا داعي للتأكيد على أهمية التعليم، وكونه حقاً أساسياً من حقوق الطفل والإنسان، ولكن بأي شروط سيقدم؟ هل هو مجرد إجراء إداري أو إحصائي نسرد من خلاله أرقام المنتسبين إلى المدارس ونسب المتسربين؟ ما هي الحوافز التي ستقدمها الدولة لمنع عودة الأميّة؟ وهل سيعاد بناء الدولة والاقتصاد مع أصحاب الكفاءات والمهارات الضرورية؟
وزارة التربية تتعامل مع تداعيات الأزمة من خلال حلول إدارية، فالحل المطروح للنزوح من التعليم الخاص إلى الرسمي هو تأمين مقاعد للتلامذة الجدد وليس تأمين مستوى تعليم جيد ومتكافئ وتوفير مزيد من المقاعد أو فتح شعب جديدة. إلى ذلك فإن نسبة النزوح التي تقارب 25%، تحتاج إلى دراسة معمقة لتأمين مستوى لائق لهم.
*باحث في التربية والفنون