ليس لبنان، بالنسبة إلى حاكميه المتسلسلين، ولشرائح «مختارة» من محكوميه المتصلين بهم نسباً وحسباً، إلا فندقاً كسائر الفنادق التي اعتادوا النزول فيها طلباً للراحة والاستجمام أو لتزجية الوقت. الإقامة أو النزول فيه، بالنسبة لهم، مرهون لا بجودة الخدمات المؤكدة فحسب، بل بما تدرّه عليهم من عوائد ومنافع، أو يُتيحه من امتيازات ومناصب تَخصّص فيها دوناً عن غيره من أماكن الإقامة المؤقتة أو العابرة المشابهة المنتشرة في أرجاء مختارة من العالم. فالأبواب، هنا، هذا إن وُجِدت، وبحكم الوظيفة الاستعمارية الأساس، مشرّعة أمام كل مارق ودخيل من صيادي الفرص أو كلاب المال.وأول هذه الامتيازات التي يتفرد بها عن سائر الفنادق أن الإقامة فيه، وربطاً بسوء المعدن وقذارة السلوك، وهو الشرط الشارط، مفتوحة وشبه مجانية، إن لم تكن مجانية بالكامل. وفي أحيان، غير قليلة، يحصل أن تخصّ الإدارة زبائنها، من أصحاب السوابق الجرمية الموصوفة، أو حتى موظفيها المتمرّسين بالخداع وألاعيبه، بالعطايا والمكافآت المادية أو العينية أو غيرها، كأن تخص بعضهم بأجنحة على نحو الجناح الذي يشغله المدعو رياض سلامة، وغيرها من العطايا التي لا تفسير معلن لها إلا كنوع من أنواع الكرم الجبل لبناني المستمد من أصل «شيحوي» لم يزل حاضراً برغم موت صاحبه. فهو الفندق شبه الوحيد الذي يفتح أمام نزلائه وبمجرد وصولهم باب الفرص التي لا حصر لها... كفرصة احتلال أجنحة وغرف المناصب الرفيعة، أو ممارسة السلطة المباشرة أو المداورة أو حتى التنعم بفضائل ما يسمى بـ«التهرّب الضريبي»، وهو بحسب نظام فندقنا المضياف ليس كذلك أبداً، بل هو شطارة لبنانية مكمّلة للهوية الملفّقة... إلى غيرها من النعم والمميزات التي لا تتوافر في الأماكن الأخرى، وإنْ توافرت، فبكلفة باهظة قياساً بالفندق اللبناني، وهذا مما لا يستسيغه من خَبر سهولة ومجانية جمع المال ومراكمته تحت أعين السلطات «الدولية» النافذة ومباركتها. فنزلاؤنا، وأغلبهم من حملة الجنسيات المزدوجة أو المتعددة، والذين يجهلون معنى الأوطان، لا يطيقون الاستثمار الصناعي أو الإنتاجي المحفوف بامتداد الوقت، وتالياً طول الإقامة، فضلاً عن الصعوبات وربما المخاطر. ويفضلون ما هو أجدى وأضمن، أي الاستثمار المباشر والفوري وذا العوائد السريعة في المصارف أو بسندات الخزينة ذات الأرباح المجزية المرعية من الموظف «الراعي» و«النبيه» رياض سلامة الذي، وبحسب مشغليه الخارجيين، ما أخلّ يوماً بمقتضيات الدور المشبوه أو الوظيفة السوداء، والمحمي من قبل منظومة سياسية ودينية وإعلامية محلية وعابرة للبحار كاملة الأركان وبالغة الانسجام والتماسك. بل إن نزلاؤنا الكرام لا يطيقون الإقامة من أصلها لولا ما توفره من أرباح ومكاسب يستحيل الوصول إليها إلا في الفنادق المماثلة، وهي، بكل الأحوال، قليلة، فضلاً عن أن لكل واحد منهم قصراً أو أكثر في عواصم الغرب يمكنه ساعة يفرغ اللوذ به.
عندما فتح ميشال سليمان، سرّاً، وربطاً بصلاحية خاصة بالموقع الذي كان يشغله، بازار «منح» الجنسية اللبنانية لأصحاب الثروات، توقف الكثيرون عند غرابة ولا معقولية أن يتهافت نزلاء غربيون وشرقيون عليها. سليمان الذي بدا يومها، في فعلته غير المسبوقة، كماً ونوعاً، مسؤولاً عن حجز الغرف لطالبيها كانت له مرام مالية سرعان ما اتضحت مع انكشاف خلفياته الفندقية الأصيلة. يومها سأل سائل عن حاجة الفرنسي أو الكندي إلى الجنسية اللبنانية، ليتبين أن السبب وراء سعيهم للظفر بها يكمن في الحصانة التي توفرها لجهة إخفاء فائض الثروة والتمتع بها بعيداً من قوانين الضرائب الغربية المتشددة قياساً بانعدامها لبنانياً.
طبعاً، وانسجاماً مع التقليد اللبناني المقدس، والذي يشبه، في وجوه كثيرة منه السرّ المقدس، لن يسدّد رياض سلامة نزيل الجناح المسمى بالمصرف المركزي ما عليه، سواء مقابل إقامته المديدة في الغرفة وإشغالها بالضد من مفاهيم الاقتصاد والسياسة، ولا حتى التعويض عما تسبب به من خراب وتدمير شملا إلى الغرفة نفسها أساسات الفندق الهشّة وكامل بنيانه. فللرجل أسوة حسنة بغيره من النزلاء الذين ربما ارتكبوا ما هو أفظع بكثير وغادروا سالمين غانمين. بل أن لبعضهم صوراً وأناشيد وساحات وشوارع تحمل أسماءهم وتخلّد ذكراهم. وقائمة هؤلاء من الطول بحيث يتعذر تعدادهم واحداً واحداً...
اليوم، ومع الإعلان عن ولادة الحكومة التي يتوهم بعضنا الساذج أن تنهض بمهام التخفيف من آلام الحرب الطبقية السافرة التي شُنّت على الناس ونالت من أساسيات عيشهم ووجودهم، يتأكد، وبالملموس، وللمرة الألف، أن لا حياة ممكنة بعد اليوم مع هذا النموذج اللصوصي، ولا إمكانية لأي مهادنة مع هذه التلفيقة التي لم تأت إلا بالحروب والويلات. وكل كلام تفاؤلي يتحدث عن إمكانية أو رغبة فرملة الكارثة التي تحاصر عيشنا أو محاسبة المتسببين بها أو حتى إزاحتهم هو تضليل صاف، ويستهدف تسكين الأوجاع وتهدئة الخواطر! وما كلام نجيب ميقاتي التسولي إلا دليلاً إضافياً على استفحال الاغتراب وعمق الانفصام والعجز عن الفهم، فأسماء حكومته وخلفياتهم دليل لا يقبل الشك على عناد المنظومة وعلى قرارها الواضح بمواصلة حربها على حق عموم اللبنانيين بالعيش الحرّ والآمن. من هنا، على المعارضين أن يفهموا أن مهمة التغيير الحقيقي والجاد لا تتم بالتمنيات ولا بالرغبات ولا بتكرار الرهانات الإصلاحية الحمقاء. التغيير يحتاج إلى المواجهة الشاملة والكسر الناجز مع المفاهيم التي حكمت والسياسات التي اتبعت، لكن الكارثة الأكبر أن لا حامل اجتماعي ولا فاعل سياسي يمكنه تولي هذه المهمة المقدسة، خصوصاً مع استقالة اليسار المعيبة والمشينة.
ليدقّق اللبنانيون جيداً في خلفيات وسجلات غالبية هؤلاء الوزراء الذين أسقطتهم السماء الأميركية وسيجد أن لبنانية معظمهم هي من النوع الفندقي المذكور أعلاه، ولا يختلفون في شيء عن سابقيهم الذين آثروا العودة من حيث جاؤوا بعد انتهاء «المهمة» التي انتدبوا للقيام بها بالضد من إرادة ومصلحة الناس التي تجهل حياة الفنادق.
سبق لزياد الرحباني أن اعتبر البلد مجرد فندق أطلق عليه اسم «نزل السرور». الواقع أن الرجل، كعادته، سبقنا إلى إدراك حقيقة وكنه هذه الرقعة الفاقدة للحياة والديمومة إلا بوصفها نزلاً... لكن نزلنا الجغرافي الذي صاغه المشرط الفرنسي لم يعد له من وجود ملموس غير اللافتة الصدئة التي تحمل اسماً تآكلت حروفه وفقدت معانيها الزجلية.
يبقى أن أهازيج «الرسالة» و«الفرادة» وغيرها من الفبركات والتنظيرات البلهاء من لوازم استمرار عمل الفندق الذي هو في حقيقته غير المعلنة مجرد ماخور يعجز قوادوه عن التسوية بين نزلائه المتكالبين على الأسلاب والمغانم، فكان أن استعانوا، مرة أخرى، بحيلة تأثيثه بألوان التكنوقراط.