بعد سنتين من «لحظة الصفر» في تشرين الأول 2019، اتّخذت السلطة السياسية (الحكومة ومجلس النواب) ومصرف لبنان كلّ القرارات المُدمّرة للمجتمع التي كان سيشترط صندوق النقد الدولي تنفيذها مقابل إقراض لبنان الدولارات. نُفّذت الإجراءات بخلفية إنقاذ المصارف وكبار المودعين والنافذين. طريقة إدارة الأزمة أنتجت واقعاً دفع حتّى أعداء صندوق النقد للتسليم بأنّ الاتفاق معه قد يكون إلزامياً للخروج من حالة الانهيار. بالتزامن، يُروّج صانعو السياسات النقدية والسياسية بأنّ صندوق النقد سيتدخّل حيث لا يجرؤ أيّ دائن آخر، أكانت حكوماتٍ أم مستثمرين من القطاع الخاص، والاتفاقية معه ستفتح الباب أمام تحرير قروضٍ أخرى، أبرزها اتفاقية «باريس 4» (سيدر).
(أ ف ب )

قامت السلطات في لبنان بـ«العمل الوسخ»، الذي كانت تُفضّل أن يُنجزه عنها صندوق النقد: رفع الدعم، تخفيض فاتورة الاستيراد بهدف تقليل كمية الدولارات التي تخرج لشراء السلع، تحرير العملة عبر خلق أكثر من سعر صرف لها، التوقّف عن القيام باستثمارات عامة... فهل لا يزال عقد اتفاقية مع «الصندوق» أولوية؟ خاصة أنّه في أحسن الأحوال ستنال الدولة «الفتات» من الدولارات، ليُراوح القرض ما بين 4.3 مليارات دولار و8.5 مليارات دولار (إن وافقت الولايات المتحدة الأميركية على ذلك) يُقسّم على سنوات عدّة.
هذا «الاستعمار من دون قوّة احتلال (عسكرية)... وجوده قد يؤدّي إلى مخاطر معنوية. يجب على الدول التي تدخل في برنامج مع الصندوق تطبيق شروط تؤدّي إلى خفض العجز في ميزان المدفوعات (الفارق بين الأموال التي تدخل وتخرج من بلد)، أي التضحية بالسيادة»، بحسب دراسة لجيمس ريمون فريلاند، صادرة عن «جامعة ييل» الأميركية سنة 1999. ويشرح بأنّ الحكومات عادةً، تقوم بموجب برامجها مع صندوق النقد على خفض الاستثمار العام، «ما يضر بالنموّ على المدى الطويل». النتيجة التي يخرج بها فريلاند أنّ «النقص في الاحتياطات الأجنبية قد ينتج عن التجارة العادية (بلد يستورد أكثر ممّا يُصدّر)، ولكن أيضاً من السياسة السيّئة. إذا عرفت حكومة ما أنّها قد تحصل على قرض من صندوق النقد، فلن يكون لديها حافز لتعديل سياساتها. ينتهي القرض بأن يُستخدم ببساطة لدعم العجز في ميزان المدفوعات وتشجيع السياسات السيئة». وهو ما ستُحاول المنظومة الحاكمة تطبيقه في لبنان.
ينتهي البرنامج إلى دعم العجز في ميزان المدفوعات وتشجيع السياسات السيئة


صندوق النقد الدولي، أو كما يُسمّى «مُقرض الملاذ الأخير»، ليس قدراً. وعلى رغم صعوبة الأزمة اللبنانية ووجود تقديرات بأنّها بحاجة إلى سنوات عديدة لتُحلّ، لكنّها لا تعني أنّ عقد اتفاقية قرض مع «الصندوق»، والخضوع لإملاءاته السياسية، أمرٌ لا مفرّ منه. الخيارات البديلة موجودة، ما ينقصها هو النيّة وهوية السلطة المُمسكة بالقرار. في آخر دراسة أعدّتها «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا ــــ إسكوا» تحت عنوان «الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان، واقع أليم وآفاق مُبهمة» اقترحت بأن يقوم أصحاب الثروات في لبنان «ونسبتهم لا تتجاوز 10% من مجموع السكان»، بتسديد كلفة القضاء على الفقر «من خلال مساهمات سنوية لا تتعدّى 2% من ثرواتهم». هذا واحد من خيارات عديدة، كإصلاح النظام الضريبي وإجبار أصحاب المصارف والمعرضين سياسياً على إعادة الدولارات التي هرّبوها، تُغني البلد عن مُستعمرٍ جديد.

جورج قرم
أكيد ممكن الاستغناء
عن برنامج مع الصندوق


لا يعتقد وزير المالية السابق، والاقتصادي جورج قرم أنّ إبرام اتفاقية قرض مع صندوق النقد الدولي «أولوية. لو كان الأمر يتمّ ضمن برنامج إصلاحي يتضمّن إجراءات تأتي لصالح الطبقات الفقيرة والفئات العاملة، أي برنامج لإعادة إطلاق الحركة الاقتصادية... ماشي الحال، مُمكن اعتباره عندئذٍ يُعيد الثقة للمستثمرين الأجانب والمغتربين لإعادة ضخّ الأموال في البلد. القصّة مرتبطة بالوفد المفاوض، وكم سيتمكّن من تحسين شروط الصندوق المفروضة». وإذا اخترنا عدم الخضوع لإملاءات صندوق النقد، فالخيارات الداخلية عديدة. يقول قرم إنّه «يجب فرض قصّ شعر (هيركات) على الودائع الكبيرة فقط. منذ سنوات وأنا أنادي بضرورة تعديل النظام الضريبي المعمول به لزيادة إيرادات الخزينة العامة. لدينا نظام ضريبي كان معمولاً به في فرنسا القرن الماضي، حالياً علينا أن ننتقل إلى توحيد كلّ مصادر الدخل وفرض ضريبة موحّدة عليها، بحسب الدخل الذي يتقاضاه الفرد. إضافة إلى ذلك، يجب فكّ تثبيت الليرة رسمياً وتوحيد أسعار الصرف المتعددة لأنها أكبر جريمة تُرتكب بحقّ الاقتصاد. وإقرار قانون القيود على التحويلات المالية (الكابيتال كونترول)». هذه الأمور أساسية من وجهة نظر قرم، وتُسهم في الانتقال من النظام الريعي إلى بناء اقتصاد مُنتج يُخفّف التبعية للخارج، «أكيد ممكن أن نستغني عن برنامج مع صندوق النقد، لكن كل ذلك غير ممكن من دون حاكمية جديدة لمصرف لبنان».
ولكن من الضروري، وفق قرم، «محاسبة صندوق النقد والبنك الدولي، لسكوتهم طيلة سنوات على الممارسات التي كانت تجري». يأخذ «معياراً» القرض الموقّع مع البنك الدولي والمُخصّص لمساعدة الأسر الأكثر حاجة بقيمة 246 مليون دولار، «لمعرفة مصير البرنامج مع صندوق النقد. ما هي التطورات في موضوع القرض؟ لماذا لا تتمّ مصارحة الناس؟ نحن اليوم أمام مشكلات شديدة التعقيد، كيف تُصرف المساعدات؟».

فادي قانصو:
لبنان يملك احتياطات كفيلة
بتمويل برنامج إصلاحي


يُعدّد مدير الأبحاث لدى اتحاد البورصات العربية، الدكتور فادي قانصو، إجراءات عدّة، تُشكّل شروطاً لصندوق النقد، تكفّلت السلطة في لبنان بتطبيقها. أولاً، يضع صندوق النقد «شرط تحرير سعر الصرف ضمن أولويّاته، وإن بات اهتمامه منصبّاً أكثر على توحيد أسعار الصرف والتي باتت بسبب الفوضى السائدة حالياً، أكثر من خمسة أسعار. ولكن إذا تعمّقنا أكثر في الوضع الراهن، نرى أنّ لبنان بات قاب قوسين من عملية تحرير تدريجي لسعر الصرف، ولا سيّما في أعقاب رفع الدعم، واعتماد «سعر السوق» في تعاميم مصرف لبنان ووزارة المالية، ولجوء مصرف لبنان إلى تقليص الفارق بين سعر السوق الموازية وسعر منصّة صيرفة. ثانياً، يُطالب صندوق النقد أينما حلّ برفع الدعم عن الاستيراد والسلع والخدمات واستبدالها بالنقد للناس، وإلغاء دعم الكهرباء وزيادة الرسوم عليها، مع توسيع نطاق الدعم النقدي للفقراء. نحن دخلنا مرحلة رفع الدعم التدريجي أو الكامل عن معظم السلع، وفي هذا السياق، أقرّ مجلس النواب بطاقة تمويلية مخصّصة للأسر الأكثر فقراً. ثالثاً، من أولويات الصندوق وضع خطّة متوسطة الأجل لسدّ العجز المالي والعودة بالدين العام إلى مستويات قابلة للاستدامة، ما أدّى بالصندوق إلى المطالبة مراراً وتكراراً بالإسراع بزيادة الإيرادات الضريبية، وهو ما تحقّق فعلياً في السنوات القليلة المنصرمة».
ما الحاجة إذاً حالياً إلى اتفاقية القرض مع صندوق النقد؟ يُجيب قانصو بأنّ «ما يطمح إليه البعض من خلال التعاون مع الصندوق هو إضفاء صدقية على المساعي «الإصلاحية» المطروحة وتعزيز القدرة على استقطاب المساعدات من الخارج من خلال وجود مرجع رقابي صارم (الصندوق)، ومحاولة الدولة الحصول على حوالى 4.4 مليارات دولار من الصندوق، ما يُعوَّل عليه أيضاً لتحرير جزء من مساعدات مؤتمر «سيدر»». لكنّ الخيارات البديلة موجودة. يقول قانصو إنّه يوجد «احتياطي إلزامي (حساب التوظيفات الإلزامية) لدى مصرف لبنان يُقدّر بحوالى 14 مليار دولار، يضاف إليه احتياطي ذهب بقيمة 17 مليار دولار، وهي مبالغ كفيلة بتمويل برنامج إصلاحي إذا صدقت النيات. طرح الموضوع جدّيّاً يتطلّب وجود رؤية واضحة لمستقبل البلاد واستقراراً سياسياً وميزانية سليمة للمصرف المركزي والقطاع المصرفي وتوافقاً على سياسة مالية وآلية صحيحة لمعالجة الأزمة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحديد حجم الخسائر. ثانياً، يجب تنويع الخيارات الاقتصادية، شرقاً وغرباً، وتحقيق التنمية المستدامة».
يتحدّث قانصو عن تعزيز نسب النمو الاقتصادي «وهو ممكن تقنياً في المدى المنظور، غير أنه يتطلّب مناخاً سياسياً داعماً وإجراء إصلاحات هيكلية لتحفيز الطلب على السلع والخدمات، وتعزيز التنافسية للاقتصاد اللبناني... يجب تحفيز الطلب الخاص عبر تحفيز الاستثمارات الخاصة. تجدر الإشارة إلى أن نموّ الاستثمار يُعزّز مكوّن العمالة في النمو الاقتصادي، الذي يتطلّب خلق وظائف جديدة لاستيعاب أكثر من 30,000 لبناني ينضمّون كل سنة إلى القوى العاملة، وخاصةً أن معضلة خلق الوظائف من بين القضايا الأساسية، نظراً إلى أنّ معدل البطالة تجاوز مستويات مقلقة».

غسان ديبة:
يُمكن إدارة الاقتصاد من دون حاجة إلى دولارات صندوق النقد


يعود رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية - الأميركية، غسان ديبة إلى بدايات صندوق النقد الدولي، حين «موّل دولاً فيها أزمات ميزان مدفوعات، في محاولة لتحقيق استقرار أكبر في الاقتصاد العالمي بعد أزمة ما بين الحربين الأولى والثانية. وقد قام الصندوق، منذ نهاية السبعينيات بذلك، بشكل متسارع في الدول النامية وبعض دول أوروبا الاشتراكية، ولكن فرض من أجل هذا التمويل شروطاً قاسية على الدول ما أدّى إلى أزمات ركود وبطالة. ترافق التصحيح مع «إصلاحات» أصابت الطبقات الوسطى والعاملة، وتماهت سياسات الصندوق منذ تلك الفترة مع هجمة الرأسمال العالمي على الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي البريطاني جون مايرد كينز) والاشتراكية.
في لبنان، مرّ على الأزمة نحو سنتين، وحصل التصحيح عبر خفض الاستيراد بشكل كبير - وهو أمر قاسٍ جدّاً - وتراجع سعر صرف العملة، ولكن لا تزال أزمة النظام المصرفي قائمة والأزمة الاقتصادية مستمرة ولبنان بحاجة إلى الخروج من الأزمة وليس التخفيف منها فقط، وهنا قد يأتي أيّ برنامج مع الصندوق. ولكنّ أيّ اتفاق يجب أن يقوم على عدم فرض الصندوق شروطه القاسية. يمكن الاستفادة من تجربة آيسلندا التي استطاعت حكومتها اليسارية أن تتفادى شروط الصندوق بشكل عام.
أمّا الأموال التي يحصل عليها لبنان من الصندوق فتُستعمل لتعافي الاقتصاد، وحلّ معضلة المودعين الصغار فقط، وإجبار المصدّرين على الإتيان بدولاراتهم إلى لبنان، ومنع الطبقة الرأسمالية من شراء الدولارات في لبنان واستثمارها في الخارج. علينا ألّا نقع في شباك برنامج تقليدي للصندوق، بل إجباره في المفاوضات على شروط سهلة يكون أساسها - بالإضافة الى ما سبق - إعادة هيكلة القطاع المصرفي ووضع الضرائب على الرأسمال والربح والثروة».
قد يعتبر العاملون على تأليف الحكومة أنّ من أولويات مجلس الوزراء الجديد توقيع برنامج مع صندوق النقد للحصول على الدولارات، وشراء الوقت. يرى ديبة أنّ «علينا ألا ننسى أن لدينا احتياطات من العملة الصعبة والذهب تفوق الثلاثين مليار دولار. بالتالي، لسنا بحاجة إلى دولارات بأيّ ثمن، لأنّ التصحيح قد حصل إلى حدّ كبير، ولا تزال دولارات المغتربين تتدفّق، وإذا أجبرنا المُصدّرين على إعادة الدولارات ومنع تهريب الأموال، يُمكننا أن ندير الاقتصاد من دون الحاجة إلى دولارات إضافية ولا داعيَ للتفتيش عليها. ولكن إذا عقد لبنان اتفاقاً مع الصندوق بشروط جيدة كما ذكرت، فعندها يمكن فعل أكثر مما يمكن أن يحصل من دون البرنامج، في ظل العراقيل التي توضع أمام استعمال احتياطاتنا».