بدلاً من أن تستنفر السلطة ليلاً ونهاراً للبحث في كيفية إخراج البلد من أزمته التي تتعمق يوماً بعد يوم، لا تزال تصر على الاستثمار في الانهيار. أبسط الإجراءات لحماية الناس لم تقم بها، لكنها لا تتردد للحظة في حماية المصارف ومصرف لبنان وكبار المودعين. حتى إقرار قانون لضبط التحويلات والسحوبات النقدية، وهو أحد أهم وأول القرارات التي تتخذ في أي بلد يواجه خطر أزمة نقدية، لم يجد طريقه إلى لبنان، بعد مرور سنتين من الأزمة المستمرة. كانت الحجة في البداية الحرص على كذبة النظام الاقتصادي الحر، ثم ألصقت لاحقاً بعدم جدوى إصدار القانون بعد كل هذا التأخير. لكن بالرغم من هذه الحجة وتلك، أقرته لجنة المال النيابية في بداية حزيران الماضي. وكان يُفترض بلجنة الإدارة والعدل أن تدرس هذا الاقتراح بسرعة، تمهيداً لسلوكه الطريق نحو الإقرار في الهيئة العامة. لكن بدلاً من إقراره، ما إن وصل الاقتراح إلى اللجنة حتى فُقد أثره. منذ منتصف حزيران وحتى اليوم لم تجد اللجنة وقتاً لإنجاز الاقتراح. وأكثر من ذلك، يؤكد أعضاء فيها أنه بالكاد طُرح جدياً في جلستين أو ثلاثة، في ظل توجه يعتبر أنه لم يعد ذي جدوى. وأكثر من ذلك، ضاعت الحقيقة بين طمأنة رئيس اللجنة جورج عدوان لسائليه بأن الاقتراح أنجز في اللجنة، وبين نفي زملائه لذلك، انطلاقاً من أن القانون لم يطرح للتصويت، ولم يعرف ما هي التعديلات التي أجريت عليه!تختصر مصادر نيابية الأمر بالإشارة إلى أن «مهمّة لجنة الإدارة لم تكن سوى تطيير القانون». وهذا السياق لم يكن مستجداً أو مفاجئاً، فمنذ حُول الاقتراح إلى اللجنة كان التناقض سيد الموقف. عدوان كان أكد لمن راجعه من النواب، في مسعى لتحويل اقتراح القانون مباشرة إلى اللجان المشتركة، أنه سيسرّع بتّه ولن يحتاج لأكثر من جلستين لإقراره. لكنه صرّح في المقابل، أن اللجنة «ستشبعه درساً لكي يكون قانوناً كما يجب أن يكون، وستُعطيه الوقت اللازم».
بالنتيجة، وفّر عدوان على اللجان المشتركة عناء دفن المشروع، وتولى هو المهمة. وهو كان لمّح إلى ذلك في تصريح له اعتبر فيه أن «هذا القانون جزء من خطة تعافي اقتصادية، وهو ليس خطة تعافي بحد ذاته، بالتالي إن لم نربطه بخطة كاملة فيها كل الأمور التي تشملها الخطة التي تحدثنا عنها عدة مرات، نكون نقوم بلزوم ما لا يلزم، قد يحقق 10 أو 20 في المئة من أهدافه ولكن ليس كلها».
عدوان يشير إلى إقرار اقتراح القانون وزملاؤه يؤكّدون عدم عرضه على التصويت


يتغاضى هذا الموقف عن واقع يؤكده اقتصاديون كثر بأن القانون يبقى مهماً طالما يوجد دولار واحد في لبنان. فالهدف هو بالنتيجة عدم التفريط بالعملة الأجنبية، وتركها لتأمين الحاجات الضرورية للناس. وهنا يوضح الخبير المالي أمين صالح أنه يجب توسيع إطار القانون ليشمل ليس فقط القيود على حركة الأموال، بل الأولى به أيضاً أن يضع قيوداً على الاستيراد، بحيث يتم تخفيف الضغط على العملة من خلال عدم استهلاكها لاستيراد الكماليات، والاكتفاء بصرف الدولارات المتبقية على شراء السلع الاستراتيجية. يؤكد صالح أن قواعد الاقتصاد الحر تسقط حكماً عندما يتهدد الأمن القومي. فأمام الخطر الوجودي لا يصبح للحرية الاقتصادية قيمة.
الثابت الوحيد حتى اليوم هو أن المصارف، وبدعم من شركائها وموظفيها في السلطة التشريعية، نجحت في التملّص من أي قيود قانونية يمكن أن تحد من حريتها، فيما تمكّن النافذون من رجال أعمال وسياسيين ومصرفيين من تهريب ما أمكن من أموالهم في البداية والاستمرار في ذلك حتى في الوقت الراهن. فلا قانون يمنع أي مصرف من تحويل الأموال أو الاستنساب، بذرائع وحجج مختلفة.
العين اليوم على لجنة الإدارة العدل، التي لم يعد يستطيع رئيسها التحجج بدراسة المشروع أو انتظار معلومات وأرقام لا يبدو أنها ستصل يوماً. يحق للجنة أن تعدل ما تشاء في الاقتراح الذي أقرته لجنة المال، على أن يُنقل التباين إلى اللجان المشتركة، لكنها لا تستطيع التغاضي عن وجوب إقراره. وللتذكير، عندما أنهت لجنة المال، في السابع من حزيران الماضي، دراسة الاقتراح، أنهته على قاعدة أن القانون لا يزال يلبي أربع حاجات أساسية:
- الحد من الاستنساب وتحقيق أكبر نسبة من العدالة والمساواة في تعامل المصارف مع المودعين، كبارهم وصغارهم على حد سواء.
- تيسير أمور المودعين، بالتالي الحد من منازعاتهم مع أصحاب المصارف.
- إيجاد مرجعية مركزية للتظلّم والشكوى من جهة، وللحدّ من ازدواجية الاستفادة في حال تعدد الحسابات المصرفية من جهة ثانية.
- استعادة الثقة المفقودة حالياً بين النظام المصرفي والمودعين، بالتالي البدء بالخطوة الأولى على صعيد انتظام العمل المصرفي وعودة الدورة الطبيعية لعجلة الاقتصاد الوطني.
من يصرّ على التغاضي عن هذه الحاجات، إنما يقرّ لمصرف لبنان وللمصارف «حقَّها» تطبّيق القيود كما يحلو لها. وهذا التوجه هو بمثابة إعطاء صلاحيات تشريعية لرياض سلامة، الذي سبق أن رفض الاستجابة لمطالب وقف التحويل إلى الخارج، بذريعة غياب التشريع ‏القانوني. وضمن صلاحياته تلك أصدر التعميم رقم 158 الذي لم يكن سوى «ميني كابيتال كونترول» على القياس الذي يناسبه، فحصره بالشق المتعلق بالسحوبات النقدية. ولذلك، منح بعض المودعين 400 دولار نقداً، وما قيمته ‏‏400 دولار بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر منصة «صيرفة»، وحمى نفسه من كل ما يمكن أن يتضمنه القانون من قيود.