لن يكون علينا أن نتوقّع نهاية للأزمة التي نعيشها، بل أن نعرف كيف نتكيّف معها. الأزمات التي نعيشها اليوم لن تنتهي لأسباب عدة، أهمها أن كلاً منها يجرّ غيره، وأن بعضها يتغذّى من بعض بشكل معقّد، ومن غير المحتمل، في المدى القريب، فكّ شيفرتها. ويزيد من تعقيدها أن المحلي منها يتداخل مع الإقليمي والدولي، وأن سوء الإدارة يلتقي مع سوء النية، والأنانية مع تضخّم الأنا، والعقد النفسية التاريخية مع التعقيدات الثقافية الموروثة، والشعور بالدونية والنقص مع المباهاة الفارغة وأوهام التقدم، والتنمية الزائفة مع محدودية الموارد.كلّ هذه التناقضات التي يستحيل تفكيكها وإعادة تركيبها في المدى المنظور، تستجلب أزمات وكوارث ستطبع مرحلة مقبلة وطويلة، لن يتمكّن من الصمود فيها إلا من يمكنه التكيّف الذي سيكون سمة العصر الحالي والمقبل. من يتكيّف يصمد ومن لا يستطعْ ذلك ينقرض.
هذه أهم قواعد علمَي البيولوجيا والإيكولوجيا اللذين أُهملا تاريخياً لمصلحة الفيزياء. ففيما تبحث علوم الفيزياء عن الحتمية وتبالغ في تقدير نفسها وفي معرفة العالم والمواد، كانت البيولوجيا تراهن على تعددية الحقائق، وعلى الاحتمالية كمنهجية أقرب إلى الطبيعة المتعددة الأشكال والوجوه. بلغة مختصرة وبسيطة، كلما أكثر الإنسان من الاحتمالات وقلّل من اليقينيات وتردّد، أبطأ تقدمه السريع نحو الهاوية والكوارث والأزمات.
إلا أن التكيّف، هذه المرة، لن يكون على الطريقة اللبنانية المعهودة، أي بالاحتيال والمصانعة والكثير من الفساد، بل في العودة إلى المفهوم الأصلي للاقتصاد الذي يعني التوفير لا التبذير كما درج المجتمع الاستهلاكي، وفي العودة إلى النظام القديم في الغذاء الذي يعتمد على «المونة» والتموين البيئي، وخصوصاً الحبوب والفواكه والمنتجات المجفّفة، ولا يلجأ إلى اللحوم على أنواعها إلا في المناسبات، وفي العودة إلى نظام البناء الموفّر للطاقة الذي يلعب فيه الهواء الحقيقي دوراً مركزياً كبديل عن التكييف الاصطناعي المستهلك لنصف طاقة قطاع البناء. كما يعني التكيّف العودة إلى النقل العام وترك السيارة الخاصة للمناسبات، وعودة الـ«تران» إلى السكة بعد إعادة إحياء خطوط سكك الحديد القديمة على الساحل اللبناني وبين بيروت والبقاع على الأقل. كذلك، على ما بقي من دولة ووزاراتها المعنية التخلي عن سياساتها التاريخية القائمة على الصرف على البنى التحتية من طرق سريعة وجسور وأنفاق، لمصلحة تجار السيارات الخاصة، بدل الإنفاق على تطوير النقل العام وتنظيمه وتوسيعه.
التكيّف يعني، أيضاً، العودة إلى الزراعات التقليدية بدل تلك التجارية والقصيرة العمر التي تحتاج لتنمو إلى كثير من المياه ومن الكيميائيات السامة، والعودة إلى الزراعات شبه البعلية التقليدية المقاومة للآفات والمعمّرة مثل الزيتون والكرمة والتين والخروب…
أما المشروع الأكبر للتكيّف الذي على الدولة أن تضعه ضمن تصور استراتيجي متكامل مع التنمية المستدامة، فهو التكيّف مع التغيرات المناخية الواقعة حتماً، ولا سيما المظاهر المناخية المتطرفة، ليس بالمزيد من العمران والإسمنت والإسفلت، بل بتوسيع المساحات الخضراء وإعادة تحويل الكثير من مواقف السيارات حدائق عامة تساهم أتربتها وأشجارها ونباتاتها في امتصاص الأمطار والتخفيف من حدة الفيضانات. وكذلك التكيّف مع ارتفاع درجات الحرارة التي تجلّت نتائجها هذا الصيف بزيادة حرائق الأحراج التي باتت تُصنف «خارج السيطرة»، عبر حماية المساحات الخضراء وزيادتها وحماية الأنظمة الإيكولوجية المتبقية. والتكيّف مع زيادة الجفاف وشحّ المياه وسرعة ذوبان الثلوج… عبر القيام بعكس ما نقوم به الآن، أي بتعزيز التخزين الجوفي ووقف التخزين السطحي خلف السدود، كون زيادة حرارة الأرض تعني زيادة التبخّر وتلوث المياه السطحية المخزّنة، بالإضافة إلى تسبب المياه المجمّعة في الوديان بانبعاثات غاز الميثان الأخطر على تغيّر المناخ وعلى الصحة العامة للأماكن السكنية القريبة من السدود.
الخبر الوحيد السارّ في ظل الأفق المسدود هو أن المطلوب من أجل التكيّف مع الأزمات الاقتصادية التي نعيشها، هو نفسه المطلوب للتكيّف مع ظاهرة تغيّر المناخ.
ونظراً إلى الظروف الراهنة التي لا يمكن فيها المراهنة على دور الدولة في التدخل لمعالجة نتائج الكوارث ولا على وضع الخطط الاستباقية للتخفيف من حدتها، ماذا يمكن للفرد أن يفعل؟
بضع قضايا أساسية يمكن أن يساهم فيها الفرد للتخفيف من تغيّر المناخ والتكيّف مع الأزمات والوضع الاقتصادي الجديد، وهي: تغيير النظام الغذائي جذرياً والاعتماد بشكل رئيسي على النظام النباتي، والتخفيف من الاستهلاك ومنح القيمة في التبضّع لـ«الضيان» بدل الجديد، والتقليل من إنتاج النفايات مع تطبيق مبادئ التخفيف والفرز والتخمير والتدوير والتقليل، واعتماد النقل العام بدل الخاص وتحاشي التنقّل المفرد، وحماية المساحات الخضراء وزيادتها، واعتماد مبادئ البناء الأخضر الموفّرة للمياه والطاقة، والامتناع من الآن وصاعداً عن الحلم بكهرباء ٢٤ على ٢٤ والتأقلم مع فكرة أن الإنسان الآتي سيعيش مع طاقة أقل ومياه أقل لتلبية الحاجات الأساسية وليس تلك الزائفة التي خلقتها الإعلانات والأسواق وقوى الإنتاج والتسويق والتجارة الحرة.
يمكن اختصار «الإنسان المتكيّف» الآتي بأنه ذاك الكائن الذي يترك بصمة بيئية وكربونية خفيفة على الطبيعة. وهو خيار لن يكون اختيارياً ولا ديمقراطياً، بل ستفرضه الأزمات والكوارث عاجلاً أم آجلاً، وكلما أسرعنا في تبني هذه الخيارات المتواضعة والموفّرة على البيئة والاقتصاد، كانت فرصة البقاء أكبر.