لم تتمكن عكار صبيحة التفجير الدامي من إطفاء النار الملتهبة التي اندلعت في قلوب عائلات الضحايا، الذين انهمكوا أمس في استكمال البحث عن جثث أبنائهم المتفحمة والمتطايرة في موقع التفجير في التليل. 32 ضحية وأكثر من 90 جريحاً هم ضحايا حرمان عكار والفلتان الأمني، سقطوا بهدف الحصول على غالون بنزين.بدت عكار عاجزة، وأطلقت نداءات استغاثة لتأمين المحروقات وتأمين انتقال ذوي الضحايا بهدف إجراء فحوص الحمض النووي للتعرف على جثث أبنائهم، فضلاً عن المناشدة لتأمين المازوت للأفران والمستشفيات ولهيئة «أوجيرو» التي أعلنت انقطاع خدماتها، وسط عجز الأهالي عن التواصل مع ذويهم في المستشفيات وتأمين المستلزمات الطبية لهم والتبرع بالدم.
في الضفة الأخرى، نشطت المرجعيات والفاعليات الدينية لمحاولة استدراك الأمور والتخفيف من حدة السجالات التي وقعت بين نواب عكار من كتلتي «المستقبل» و«الوطني الحر». وبالرغم من الانتماء السياسي الواضح للأطراف المتهمة بالتفجير، وهما صاحب الأرض ومن قام بتخزين البنزين، وكلاهما من الماكينات الانتخابية النشطة لتيار المستقبل وتربطهما علاقات لم يتمكن نواب التيار الأزرق من نفيها، إلا أن «المستقبل» تمكّن من خلق نزاع سياسي، فيما نيران الانفجار لم تكن قد خمدت بعد.
النائب المستقبليّ، محمد سليمان سارع الى تحميل الرئيس ميشال عون مسؤولية التفجير، ليتّضح لاحقاً أن من خزّن المواد هو ابن منطقة خط البترول في وادي خالد، وموقوف بجرائم تهريب واحتكار، وتجمعه ولائم الغداء والعشاء بالنائب سليمان. وما هي إلا ساعات حتى انتشرت صور تجمعه وعائلته مع نواب المستقبل.
الحال نفسها انسحبت على الرئيس سعد الحريري وأعضاء كتلة المستقبل الذين طالبوا الرئيس عون وكل مسؤول عن الفاجعة بالاستقالة الفورية! بيان المستقبل طالب الجهات الأمنية والعسكرية والقضائية المختصة بالإسراع في التحقيقات وتحديد المسؤوليات، مؤكداً أن تحميل بعض نواب المستقبل مسؤولية ما وقع، يشكل «أسلوباً رخيصاً من أساليب التيار الوطني الحر، وتجار الدم من جريمة مرفأ بيروت الى جريمة عكار».
البيان يظهر انفصالاً تاماً عن الواقع، وكأن تيار المستقبل لم يكن شريكاً في الحكم ومتحكّماً في مفاصل الدولة منذ عقود، وكأن نواب المستقبل غير معنيين بما يجري في عكار منذ عام 2005، وكأنهم لم يحتكروا التمثيل السياسي على مدى 16 عاماً، وكأن الفقر والحرمان والإهمال تهبط على العكاريين من الفضاء، وكأن المسلحين الذين يسيطرون على الطرق ويقطعون أوصال عكار ويتحكّمون بها هم من كوكب آخر، وكأن لا دخل لهم بالأجهزة الأمنية، وكأن المواكب التي ترافق صهاريج المحروقات وتوثق العراضات المسلحة ليست تابعة لبعض نواب تيار الحريري. الكل براء مما يجري في عكار.
صاحب خزان البنزين الذي انفجر قريب من نواب «المستقبل» وينشط في ماكينتهم الانتخابية


منذ أشهر، وأبناء عكار يستغيثون لفك الحصار المفروض عليهم، والناس يتخبطون والكارثة كانت واقعة لا محالة. فكل صهريج يعبر عكار هو قنبلة موقوتة. وما حصل في بلدة التليل كان يمكن أن يحصل في المحمرة والعبدة وغيرهما من البلدات التي تشهد عمليات كر وفر بين المسلحين وأصحاب الصهاريج والمؤسسات التي تسعى إلى تأمين احتياجاتها. حتى المستشفيات ودور الرعاية لم تسلم من شبيحة الطرق.
كل تلك المآسي ورئيس المستقبل سعد الحريري لم يقم بأي تحرّك لإبعاد الكارثة عن المحافظة الشمالية. لم يصدر بياناً واحداً يطالب فيه قوى الأمن الداخلي بحماية الناس الباحثين عن لقمة عيشهم والذين بات جل طموحهم تأمين قوتهم كفاف يومهم. وعندما وقعت الكارثة، سارع إلى إطلاق الاتهامات، فيما تولى بعض مسؤوليه التحريض الطائفي، لكون صاحب الأرض من بلدة التليل المجاورة لبلدة هيتلا، وهي بلدة نائب التيار الوطني الحر أسعد درغام، ليتضح أن صاحب العقار من أبرز الماكينات الانتخابية للمستقبل ولا علاقة له بالتيار الوطني الحر.
وعقب التهديد والتحريض العلني على النائب درغام، سارعت الفاعليات الدينية الإسلامية والمسيحية إلى عقد لقاء في دائرة الأوقاف الإسلامية، بحضور رئيس فرع مخابرات الشمال في الجيش العميد نزيه بقاعي، والدكتور هيثم عز الدين ممثلاً الرئيس نجيب ميقاتي، وطالبوا بتضافر الجهود «لوقف التجاذب السياسي والتوظيف الطائفي للكارثة، وهو ما قد يؤدي إلى فتنة لا تشبه عكار». واستُكمِل الاجتماع أمس في بلدة التليل عقب جولة على أهالي ضحايا التفجير، وكان تأكيد على «أهمية الحفاظ على التعايش، والفاجعة لن تكون سبباً لاعتداء بعضنا على بعض، وإنّما ستزيدنا أخوّة».
وطالبت بلديات وفاعليات الدريب الأوسط والغربي خلال اجتماع طارئ «بإحالة ملف الانفجار على المجلس العدلي لكشف المتورطين عن تخزين المحروقات وتهريبها واحتكارها»، و«باعتبار الضحايا والجرحى شهداء شرف وتخصيص عائلاتهم برواتب تقاعدية أسوة بباقي شهداء المؤسسة العسكرية، واعتبار ضحايا المؤسسة العسكرية من الجنود المأذونين، شهداء شرف». وشددوا على ضرورة إجراء «تحقيق شفّاف من قبل قيادة الجيش لكشف مسببي الانفجار وإصدار بيان بذلك من المؤسسة العسكرية». وقد أتى ذلك عقب صدور تصريحات من بعض الأهالي المفجوعين حمّلوا فيها الجيش مسؤولية الحادثة، لكونه ترك الموقع عقب مصادرة الخزان من دون أي حراسة، كما سمح للأهالي بتعبئة الكمية المتبقية، فيما المفروض فرض طوق أمني حول المكان.
وعلق «المجلس المدني لإنماء عكار» على ما حصل أول من أمس في عكار، بأنّ «مافيات الحكم ما زالت تمعن في حرمان عكار من أبسط حقوقها، والأدهى تواطؤ بعض المسؤولين في عكار مع هذه المافيات الذين أدى طمعهم وفسادهم الى حصول مجزرة التليل»، متسائلاً: «لماذا يريدون في كل مرة إلباس عكار ثوب الحداد والإرهاب في وقت واحد؟». ودعا «الجميع الى أن ينتفضوا على الظلم المستشري في محافظة عكار منذ عقود خلت، فضاعت حقوق مسلميها ومسيحيّيها بسبب نوابها ومسؤوليها الفاشلين، الذين لا ترى منهم سوى البيانات الجوفاء التي تؤجج الخطاب الطائفي فقط».