يُقتاد ملف تفجير مرفأ بيروت - عن قصد - إلى ما هو أكثر من تمييع للحقيقة ومنع محاسبة المتورطين. فالقوات اللبنانية التي اعتادت الاستثمار بالدم منذ 2005، تقوم بالأمر نفسه لتسمين صورتها «المُعارضة» للمنظومة ومحو آثار ماضيها في السلطة، أما التيار الوطني الحرّ، فقد وجدَ مخرجَ طوارئ إلى منطقة آمنة من تهم التستّر على المتهمين أو الشراكة في الجريمة. وتقاطعَ الطرفان عند نقطة اعتبار الملف برنامجاً انتخابياً دسماً يُفتتح به الموسم باكراً، فحشراه في زاوية طائفية المُراد منها تسجيل النقاط في الشارع المسيحي. وليسَ الحزب الاشتراكي أقل استغلالاً لقضية عوائل الشهداء، وهو الذي ركِب الموجة خوفاً من «المشانق» الشعبية. بينما وقفَ الرئيس سعد الحريري «إجر بالبور وإجر بالفلاحة»، فلا استطاع توظيف التفجير في تصفية الحسابات السياسية (وهو مِن المشتبه بتورطهم بالإهمال)، ولا الثبات على موقف في ما يتعلق برفع الحصانات.
نجح جعجع في تكريس نفسه بصورة «المتزعّم» لهذه القضية وكأنه أحد أولياء الدم (هيثم الموسوي)

أكثر من تطوّر حصلَ أمس، له خلاصة واحدة: نجح سمير جعجع في جر النائب جبران باسيل ورئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط إلى اللحاق به، لكنه نجح أكثر في تكريس نفسه بصورة «المتزعّم» لهذه القضية وكأنه أحد أولياء الدم. فبعدَ دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى عقد جلسة للتصويت على عريضة «طلب اتهام وإذن بالملاحقة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، استناداً إلى القانون 13 الصادر عام 1990»، خرجَ جعجع صباحاً بعد اجتماع لتكتّل «الجمهورية القوية» معلناً مقاطعة الجلسة، ودعا «كل النواب الأحرار في جميع الكتل وأينما كانوا إلى مقاطعة الجلسة، باعتبار أنه إذا ما عُقدت فستكون بالفعل عاراً على جبين مجلس النواب إلى أبد الآبدين». ثم زايَد عليه سريعاً باسيل الذي غرّد بأن «جلسة مجلس النواب غير شرعية لأنه لم يتم التقيّد بالآلية القانونية المنصوص عنها في المادة 93 من النظام الداخلي لمجلس النواب والمادتين 20 و22 من قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى، ما ينزع عن الجلسة قانونيتها ويجعل جميع إجراءاتها غير قانونية»، بعدَ بيان لتكتل «لبنان القوي» أعلن فيه المقاطعة، والتحق بهما الحزب الاشتراكي في ما بعد، إضافة إلى عدد من النواب بينهم شامل روكز وفؤاد مخزومي وجان طالوزيان. بينما عُلِم بأن الحريري أبلغَ بري عبر الوزير علي حسن خليل بأنه تراجع عن موقفه الرافض للعريضة، وأن كتلته ستحضر الجلسة وستصوّت معها.
عشية الجلسة، اشتدّت البيانات الإعلامية المتبادلة، بشكل عكسَ عمق الانقسام السياسي حول آلية المحاكمة. لم يحتمِل برّي محاولات «تطيير» الجلسة فردّ بالقول «لمن يتذرّع بغير الشرعية وبعدم القانونية وهم ما هم من مهارة في هذه الميادين، أسألكم ما قيمة نصوص الدستور؟ ما قيمة القانون رقم 13/90؟ وماذا كنتم تفعلون عندما انتخبتم، إضافة إلى 8 قضاة برئاسة رئيس مجلس القضاء الأعلى، سبعة نواب أعضاء أصيلين في هذا المجلس. بالتالي قيام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، إلا إذا كنتم على استعداد لإلغاء هذه المواد طالما لستم بحاجة لها كما تفعلون. وأنتم لا تدرون ماذا تفعلون».
رفض المجلس الأعلى للدفاع إعطاء الإذن بملاحقة صليبا المحسوب على رئيس الجمهورية


ولم تقِف الأمور عند هذا الحد. فما أن أصدرَ «لبنان القوي» بياناً مبرراً فيه المقاطعة بأن «الدعوة لم تحترم المادة 93 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنص على أن تقدّم الهيئة المشتركة تقريرها خلال 15 يوماً، ولا المادتين 20 و22 من قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى بأن يبلغ رئيس المجلس نسخة من جواب الشخص أو الأشخاص المطلوب اتهامهم إلى جميع النواب، وذلك خلال عشرة أيام على الأقل قبل موعد الجلسة المخصصة للنظر في الاتهام»، حتى استنفرت كتلة «التحرير والتنمية» التي اعتبرت في بيان أن «من أصدر بيان تكتل (لبنان القوي) قد تعمّد عدم احترام عقول نوابه الذين يعرفون تماماً أن مضمون ما صدر لا ينطبق على الواقع بشيء لا في الشكل ولا في المضمون».
هذه التطورات التي تقدّمت انعقاد الجلسة سبقتها اتصالات سياسية بين الكتل النيابية، وكانَ هناك حرص على الاستفسار عن موقف كل كتلة من التصويت مع العريضة أو ضدها، لكن الغريب أن بعضها تعهّد بالحضور والتصويت مع العريضة، ثم تراجع عن ذلِك مثل كتلة «الطاشناق». وبعدَ أن كانَ النقاش حول إمكانية تأمين أكثرية الثلثين (أي 86 نائباً) لتأليف لجنة تحقيق برلمانية، صارَ السؤال عن إمكانية عقد الجلسة اليوم والتي يظهر أن من الصعب تأمين النصاب لها، أي 59 نائباً.
وفي حال انعقدت الجلسة أم لا، فإن ما حصل يسمح باستنتاج الآتي:
- نجح البعض في تطييف ملف تفجير المرفأ وهو أكثر ما يضرّ عوائل الشهداء وقضيتهم.
- مقاطعة الجلسة خلقَ مناخاً متأزماً بين القوى السياسية، وتحديداً بين الحلفاء. فقد فاجأ موقف جنبلاط عين التينة التي تعتبِر أنه كانَ بالإمكان الحضور والتصويت ضد العريضة، بينما قالت مصادر نيابية أن «موقف جنبلاط هو ضد المجلس وأنه لا يُمكن أن يكون مجرّد عناد».
- التخبّط في مسألة تأمين النصاب أظهر بأن المجلس ليسَ ممسكاً بزمام الملف وأن الانقسام السياسي أكبر من قدرته على تمرير ما يريد ولو حتى كانَ دستورياً.
مصادر نيابية في التيار الوطني الحرّ أكدت بأن موقف الكتلة هدفه عدم طمس الحقيقة، فيما وصفَ بعض النواب من كتل أخرى البيان الذي خرج عن التيار بأنه «كاذب»، وبخاصة أن «نواباً من التيار اعترفوا خلال التواصل معهم بأن نسخ أجوبة الأشخاص المطلوب اتهامهم وصلت إليهم قبلَ عشرة أيام»، متسائلة: «لماذا رفضوا اقتراح الحريري برفع الحصانات عن الجميع ما داموا يريدون ذلِك؟ هذا دليل إضافي على تآمرهم في هذا الملف». أما الحريري فقد أعلن مساءً في بيان أن «أي إجراء آخر يستثني رئيساً دون آخر، أو قاضياً دون مدير أو نائباً دون وزير، من الخضوع للتحقيق الكامل لدى المحقق العدلي، يهدّد بتحقيق النتيجة المعاكسة والتعمية عن الحقيقة أو التستّر على جوانب أساسية منه». وتابع «أضع الكتل النيابية المتلكّئة أمام مسؤولياتها: إما أن يعلق تطبيق مواد من القوانين والدستور على الجميع في هذه القضية التي لا تحتمل أيّ تذاكٍ أو تلاعب أو تطييف، أو أن يطبق القانون والدستور كاملاً بحذافيره على الجميع».
وأتى بيان الحريري بعدَ عدة اجتماعات للمجلس الأعلى للدفاع، ناقش في إحداها طلب المُحقق العدلي طارق البيطار منح الإذن بملاحقة اللواء طوني صليبا، وقرر «ردّ الطلب مستنداً إلى القوانين التي ترعى عمل جهاز أمن الدولة والسلطات الممنوحة له». ومن المعروف أن صليبا هو من المحسوبين سياسياً على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والوزير باسيل.