إلى مازن أبو زيد الذي سينتصر على الخنجر الفاشي
كان متوقّعاً أن تتعرّض ذكرى الرابع من آب لشتّى أشكال الاحتواء والتوظيف السياسي. بدأت أجهزة الدعاية والترويج مهمّتها مبكراً، وتصاعدت حملات التعبئة المركّزة، وعمليّات التجييش والتحريض على المنصات والمنابر السياسيّة والإعلاميّة. هكذا تعرّض جزء من الجمهور لعمليّة «تهييج» وغسل دماغ منهجيّة، وشُنّفت آذانه بشتّى الشعارات الاختزالية، الجوفاء، المخادعة التي تدعو «الشعب» للنزول إلى الشارع من أجل «العدالة» و«الحقيقة»، ومن أجل «التغيير» و«إسقاط النظام». بشّرتنا أبواق «الثورة» بـ«مجتمع 4 آب» الذي سيهبّ ضد «منظومة الفساد». فإذا بنا - وبذوي الشهداء قبل الجميع - نشارك في «ثورة» قائدها البطرك بشارة الراعي، وملهمها سمير جعجع، ومهرّجها مارسيل غانم. وإذا بنا رهائن الفئوية والطائفية والتعصّب والعنف الأهلي... وضحايا التخلّف والعمالة والتضليل والخناجر الفاشيّة...
كان متوقّعاً أن تتعرّض المناسبة للاختطاف السياسي، في بلد اكفهرّ أفقه، وجفّت آماله، وضاعت نقاط ارتكازه، وتعطلت بصيرته، ونفدت طاقاته الحيوية، وسدّت بوجه أهله سبل النجاة... لكن ليس إلى هذه الدرجة. لم يتوقّع أحد أن تنقلب ذكرى الكارثة الوطنيّة العظمى التي ضربت في الصميم، مدينة وبلداً وشعباً، من لحظة جامعة توحّدنا في المأساة، حول مشروع تأسيسي لبلدنا، إلى نذير شؤم بعودة زمن قاتم كان المواطنون فيه يموتون على الهويّة. «وحياة العدرا أنا مسيحي. بفرجيك هويتي!»، يقول المناضل اليساري الشاب الطري العود، المدمّى الوجه، دامعاً مرتجفاً متوسّلاً جلاده الفاشي الذي استفرد به في الجميزة. إذا كنت (مولوداً) «مسيحياً» وضد الفاشية يا رفيقي المسكين، فإن عقابك أكبر. كيف فاتك ذلك؟ وبعد الإهانة والترهيب والإذلال، كان عليه أن ينزع الكوفيّة عن كتفيه يرميها أرضاً ويدوسها وهو يشتم «القضية»!
رفيق آخر له تحت الرنجر القواتي أُرغم على شتم الشيوعية، وعلى تلاوة «القسَم الفاشي»: «الله قوات». المجموعة الشيوعيّة التي صدّقت أنّها «تلبّى دعوة أهل الشهداء» وتتظاهر من أجل العدالة، وقعت في كمين قوّاتي في الجمّيزة، فانهالت على الرفاق العصيّ والخناجر. وقد اخترق أحد هذه الخناجر صدر مازن أبو زيد، ومزق رئته، وهو الآن في المستشفى يكافح متشبثاً بالحياة. ماذا تنفع الهتافات «صهيوني صهيوني، سمير جعجع صهيوني» يا رفاق؟ «الصهاينة» هم أسياد هذا الرابع من آب. كنا نظن أن «عملاء إسرائيل» بيننا، أقليّة خجولة يمكن استئصالها أو تركها تتخثّر مع الزمن، لكن لم نكن نتوقّع أن يخرجوا الى العلن بهذه الثقة، ويصادروا ذكرى الرابع من آب! هذه هي «الثورة» التي وعدتمونا بها يا فرسان العدالة والحوكمة الرشيدة والتغيير على الطريقة الشنكريّة؟
لم يتوقّع أحد أن تكون الذكرى الأولى للكارثة الوطنيّة نذير شؤم بكارثة أخرى، أكبر وأعظم من انفجار المرفأ، رغم أهواله التي دخلت السجل الأسود للذاكرة البشريّة... كارثة حرب أهلية تتمناها إسرائيل ويشتغل عليها سفراء الوصاية والانحطاط. الناس المحتشدون بالآلاف أمام مسرح الجريمة، جاؤوا يطالبون بدولة تشبه أحلامهم، بوطن لا يموت فيه الناس بعبثية ومجانيّة، كما حدث هنا قبل عام. لكن فئة سياسيّة أبت إلا أن تغتصب بيد آثمة هذا اليوم المقدّس، وتفرض وصايتها على المناسبة. وحين احتج أحد المشاركين على مجموعة مهتاجة، وطلب إليها عدم رفع علم القوات، فاليوم نرفع العلم اللبناني فقط، كان نصيبه أيضاً الضرب المبرّح، حتى سال دمه. «سمير جعجع هو أوّل قاتل في الطبقة السياسية»، راح يصرخ مضرجاً بدمه، أمام الكاميرات! غير صحيح! هذه «افتراءات إيرانية»! الحكيم هو مانديلا «ثورة الأرز». ألم يدسّ الكومبارس السعيد فارس سعيد بين الحشود، من دون أن يسألهم رأيهم، لافتة كتب عليها IRAN OUT؟ ألم يتحفنا بطل الرابع من آب بامتياز، بطرك التطبيع، في عظته، بإدانة «الوصاية والاحتلال»؟ لقد نسي غبطته عند أقدام الأهراءات المتصدّعة، أنّه بدأ عهده بالسفر لملاقاة عملاء الاحتلال، وأنه أوّل الداعين إلى الوصاية.
سيبقى 4 آب 2021 في التاريخ بصفته يوم انبعاث «الانعزالية اللبنانيّة» بأبهى حللها. مخطط منهجي لسرقة المناسبة من قبل قوى سياسية هي أصل بلاء البلد ونكبة أهله، وتحويلها كرنفالاً دمويّاً يأخذ لبنان إلى الموقع النقيض لكل ما نحتاج إليه اليوم. من بطرك الموارنة الذي كاد يطوّب نفسه قدّيساً في مرفأ بيروت وهو يتقدّم على وقع إنشاد الكورس البوليفوني: «مجد لبنان أعطي لكم، مجد لبنان أعطي لكم»، إلى مارسيل غانم الذي اختتم هذا النهار الطويل، بحفلة تزوير على المحطّة «السياديّة» إيّاها. لقد اهتدى هذا الصحافي الاستقصائي الخطير إلى الشهود الذين سيحسمون القضية. سائق الشاحنة يقول إنّه هرّب موادّ خطيرة لا يعرف ما هي، من العنبر المشؤوم إلى الجنوب (تصفيق في الاستوديو). إن حزب الله هو الذي يقف وراء تخزين هذه المواد الخطيرة في مرفأ بيروت. صدقوا مارسيل غانم ومحطّته.
في الرابع من آب كشّر المسخ الانعزالي عن أنيابه، واختطف الغضب الشعبي ترغيباً وترهيباً وتضليلاً وعنفاً، مكرراً الخطأ القديم نفسه، ومستدرجاً لبنان إلى هاوية بلا قرار. صدّقتم أيّها السذّج، أننا هنا لكفكفة دموعكم وتضميد جراحكم والمطالبة بحقوقكم؟ أنتم المطيّة التي نستعملها لنتلاعب بالغضب الشعبي، ونؤبلس المقاومة، ونطلق حملتنا الانتخابية كما فعل البطرك في درّته الفريدة، خلال القداس الذي أحياه فوق أنقاض المرفأ، بعيد توقيت الانفجار. من أعطاه الحق بأن يصادر تلك اللحظة الفظيعة التي هي ملك الشعب اللبناني؟ وأن يستبيح الجراح والعذابات وينصّب نفسه وصيّاً عليها؟ إذا كان غضب أهالي الشهداء عارماً قبل 4 آب ضد السلطة وأباطرة النظام، وكل من يقف حائلاً دون معرفة الحقيقة ومحاسبة الشركاء في الجريمة، والمسؤولين عن جرحهم المفتوح... فيجب أن يكونوا أكثر غضباً بعد تلك الهمروجة: لقد تاجر محور شيا - بخاري بوجعهم وحدادهم، واستهلكتهم المنابر والكاميرات، وسُرقت منهم المناسبة...