لا جدوى من توجيه الكلام إلى فريق الادّعاء السياسي في جريمة المرفأ. فهذا الفريق، بأحزابه وجمعياته ووسائل إعلامه و«حقوقيّيه»، قرّر القيام بالدور الذي أداه الصحافي فارس خشان عام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. عامذاك، تولّى خشان، عبر تلفزيون المستقبل، «قيادة» التحقيق والرأي العام، وتحديد المسموح والممنوع، والواجب والمستحب، والمجرم والبريء، مِن قَبل أن يُستجْوَب من ينبغي استجوابه. في ذلك الزمن الرديء، كان الحديث عن رئيس لجنة التحقيق الدولية، ديتليف ميليس، يكاد لا يخلو من إضافة لقب «الثعلب الألماني» إلى اسمه، في إطار المديح طبعاً، قبل أن يتبيّن أنه نصّاب استُقدِم خصيصاً للتغطية على القيام بانقلاب سياسي ــــ أمني، بذريعة «الحقيقة لأجل لبنان». وحينذاك، كان أيّ انتقاد لميليس أو لأحد مساعديه، حتى المرتشين منهم، يُعدّ مشاركة مباشرة في اغتيال الحريري، أو ــــ على أقل تقدير ــــ في التغطية على المجرمين.فريق الادّعاء السياسي ــــ الإعلامي ــــ «الحقوقي» في جريمة انفجار المرفأ، مصرّ اليوم على استنساخ تجربة خشان وتلفزيون المستقبل وفريق 14 آذار عام 2005. يستنسب في اختيار «الأهداف»، فيركّز هجومه على «مدّعى عليهم» دون غيرهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، المطلوب اليوم رأس عباس إبراهيم، لا غيره من القادة الأمنيين. ومشكلة النيابة العامة التمييزية تصبح محصورة في رفضها منح إذن ملاحقة إبراهيم، رغم تفاهة الأدلّة المساقة ضد الأخير: أنه تبلّغ في شهر حزيران 2020 بأن المديرية العامة لأمن الدولة تحقق في مسألة نيترات الأمونيوم في المرفأ، بإشراف النيابة العامة التمييزية، ولم يحرّك ساكناً؛ كما لو أنه يحقّ له التدخل في تحقيق قضائي بشأن مواد موضوعة أصلاً تحت الحراسة القضائية! تُحصر المسألة في عدم منح المحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري الإذن بملاحقة إبراهيم، ولا يؤتى على ذكر أن أرباب السلطة القضائية، تولّوا حماية القضاة المشتبه فيهم في قضية المرفأ، علماً بأن هؤلاء القضاة هم الذين قرروا إدخال النيترات إلى الميناء، وقرروا وضع حراسة قضائية عليها، كما قرروا لاحقاً عدم منح الإذن للتخلص منها (ليس المقصود هنا اتهام هؤلاء القضاة بالمسؤولية عن الانفجار. فهم لم يأمروا بوضع النيترات في العنبر الرقم 12، إلى جانب كل مكوّنات «القنبلة» التي انفجرت يوم 4 آب، ولا بترك العنبر مهملاً، ولا بتلحيم الأبواب من دون وقاية).
لكن، رغم التشابه في أداء فريقَي الادعاء بين 2005 و2020، يبقى الفارق الأساسي أن المحقق العدلي القاضي طارق بيطار، ليس ديتليف ميليس، ولا هو راغب في تكرار التجربة. ولأجل ذلك، ينبغي توجيه الكلام إليه وحده.
منذ وراثته ملف التحقيق عن القاضي فادي صوان، أظهر بيطار أداءً مغايراً لأداء سلفه، لجهة إطلاق سراح بعض «صغار المسؤولين»، والتركيز على من هم أعلى رتبة ومسؤولية وصلاحية. وعندما وجّه طلبات الادّعاء والإذن بالملاحقة، ووجِه بالحصانات:
أولاً، مجلس النواب قرر تثبيت حصانة الوزراء ورؤساء الحكومات، وإحالة الملف على المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. ورغم أن هذا الإجراء هو حق قانوني ودستوري للسلطة التشريعية، فلا يجوز تجاهل غياب الثقة العامة بأي إجراء سياسي. كما لا ينبغي تجاهل أن «المجلس الأعلى» هو أقرب ما يكون إلى مجلس لمنع المحاكمة عن الرؤساء والوزراء، لجهة كون إجراءات التحقيق والاتهام فيه تحتاج إلى موافقة ثلثَي أعضاء البرلمان. أما الأحكام الصادرة عنه، فتحتاج بدورها إلى ثلثَي أعضاء المجلس المكوّن من 15 شخصاً (8 قضاة و7 نواب)، ما يعني أن صدور حُكم عنه يكاد يرقى إلى مستوى المستحيلات.
مَن سبَق الجميع إلى تثبيت الحصانات، هو المحقق العدلي نفسه


ثانياً، رئيس الجمهورية قرر تثبيت حصانة المدير العام لأمن الدولة.
ثالثاً، وزير الداخلية قرر تثبيت حصانة المدير العام للأمن العام.
رابعاً، القضاء قرر تثبيت حصانة القضاة. وهنا، يجري تجاهل أن طلب الادعاء على عدد من القضاة، واجهته حملة داخل السلطة القضائية، تولاها بالدرجة الأولى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، تحت شعار منع تحويل القضاة إلى «كبش محرقة في ظل الحماية التي يحظى بها سائر المسؤولين السياسيين والأمنيين».
خامساً، النيابة العامة قررت تثبيت حصانة المدير العام للأمن العام. وبحسب ما تسرّب أمس، فإن المحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري سيُبلغ المحقق العدلي أن الأدلّة التي زوّده بها غير كافية للادّعاء على إبراهيم، وأنه سيقترح عليه استجواب المدير العام للأمن العام قبل المضيّ في الإجراءات.
في جميع ما سبق، ثمّة حق قانوني ودستوري، سواء للبرلمان، أو للنيابة العامة، بصرف النظر عن كون الحصانة مخالفة بحدّ ذاتها لأبسط موجبات العدالة. لكن مَن سبَق الجميع إلى تثبيت الحصانات، هو المحقق العدلي نفسه. فلكثير من المتابعين لهذه القضية، لا يُمكن النظر ببراءة إلى قرار بيطار، كما سلفه صوان، تثبيت حصانة قائد الجيش العماد جوزف عون ومدير استخباراته السابق ومستشاره السياسي والأمني الحالي، العميد المتقاعد طوني منصور. مسؤولية الجيش واضحة وجليّة في قانون الأسلحة والذخائر عن المتفجرات وما يدخل في صناعتها (في القانون تُذكر نيترات الأمونيوم بالاسم). ولا يمكن عاقلاً يتابع القضايا الأمنية في لبنان أن يقتنع بالمسرحية التي جرى إخراجها للقول بأن استخبارات الجيش في المرفأ، صاحبة الصلاحية الأمنية المطلقة في ميناء بيروت البحري (سواء بالقانون أو بحكم الأمر الواقع)، لم تُبلغ قيادتها طوال الفترة الممتدة من آذار 2017 إلى آب 2020، بوجود 2700 طن من نيترات الأمونيوم في المرفأ. عدم علم قائد الجيش ومدير استخباراته بذلك هو في حد ذاته مدعاة للشبهة. وما قام به بيطار بعد صوان، هو فتح باب الاستنسابية في منح الحصانات. ولأن بيطار لا ينوي أن يكون ديتليف ميليس الثاني، فلا بُدّ من لفت نظره إلى أن تخصيص العماد والعميد بهذه المظلة، يتيح «الارتياب (السياسي) المشروع». ويصبح الانتباه إلى هذه المسألة واجباً أكثر من أي وقت مضى، لأسباب شتى، أبرزها أن تلك «الحصانة» تتوافق مع السياسة الغربية تجاه لبنان، الأميركية تحديداً، التي لا تُخفي نيتها استغلال أيّ حدث، كتداعيات انفجار المرفأ، في الدفع باتجاه التغيير السياسي الذي تنشده.
لا بد لبيطار أن يعي أن الأمر ليس تقنياً أو ذا بُعد جرمي عادي. وليس في لفت الانتباه ما يرغب فريق «الادعاء السياسي» باعتباره ضغطاً أو تهديداً. لكن يجب على القاضي أن يعرف بأن ما يمر به لبنان اليوم ليس وليد أزمة داخلية حصراً. كما لا بد له أن يُدرك بأن القوى الداخلية - سواء الذين هم في السلطة أو الذين يعارضونهم - يعملون ليل نهار على استخدام كل حدث داخلي في صراع هدفه الحقيقي منع المراجعة الشاملة لما جرى على مدى القعود الثلاثة الماضية. في هذه الحالة، فإن أي عدالة منقوصة يُدفع إليها التحقيق في انفجار المرفأ قد تقف حائلاً أمام محاسبة ضرورية لكل من تورط في خراب البلاد.
مسؤولية القاضي بيطار اليوم لا تقف عند عواطف وضغوط إعلامية أو سياسية، مرئية أو غير مرئية، بل إن مسؤوليته الأولى تكمن في اعتماد آليات شديدة الوضوح لأجل منع التسييس الذي سيقتل بيروت مرات جديدة. لا بد لبيطار أن يعي ذلك كلّه، «لأجل لبنان» لا لأجله، ولكي لا ينتهي التحقيق في انفجار المرفأ إلى ما آل إليه التحقيق في اغتيال الحريري.