عندما زار قائد الجيش العماد جوزف عون مدينة طرابلس في 2 تمّوز الجاري، بعد 24 ساعة من تفلّت أمني خطير وانتشار مسلّح شهدته المدينة نتيجة الوضع الاقتصادي والمعيشي الضاغط، ومنها حذّر بأنّ «المسّ بأمن المدينة ممنوع»، في موازاة تعزيزات عسكرية للجيش لضبط الوضع فيها ومنع خروجه عن السيطرة، بقيت عاصمة الشمال تشهد بشكل يومي، وخصوصاً ليلاً، إشكالات كان يتخلّلها تبادل لإطلاق النار من أسلحة حربية، قبل أن يتدخل الجيش في كلّ مرّة، ويفرض بالقوّة ضبط الأمن والحفاظ على استقرار أمني هشّ في مدينة لطالما اعتبرت خاصرتها الأمنية رخوة.هذه الإشكالات التي كانت تقع بين مجموعات مسلحة في أحياء شعبية وفقيرة مثل باب التبّانة والأسواق القديمة وباب الرمل والقبة والزاهرية والبدّاوي ووادي النحلة تحديداً، تحوّلت في أحيان كثيرة إلى معارك وجولات اشتباكات صغيرة، يتبادل المسلحون النّار فيها من أسلحة رشّاشة، كان يقع ضحيتها قتلى وجرحى، وكانت ترسم «خطوط تماس» بين الحارات والأحياء والعائلات، وخصوصاً أنّ معظم هذه الإشكالات كانت تحصل إمّا بسبب أعمال ثأر قديمة، أو نتيجة خلافات على مصالح شخصية أو فرض خوات، أو بسبب خلافات فردية، أو على خلفية خلاف على أفضلية مرور، أو تجاوز في طابور أمام محطة وقود وسوى ذلك.
هذا التفلّت الأمني جعل أهالي وفاعليات المدينة يضجّون منه ويدعون إلى ضبطه، خوفاً من خروجه عن السيطرة، وخصوصاً بعد تسريبات وشائعات واتهامات بأنّ مجموعات إسلامية متشدّدة تراقب الوضع وتستعد للتحرّك في المدينة ومناطق شمالية أخرى عند أوّل فرصة مناسبة لها، وأن الأتراك يحضّرون خلايا أمنية لهم لبسط نفوذهم في شمال لبنان، وتحديداً طرابلس، وأنّ حزب الله وحلفاءه يحضّرون بالمقابل عناصر من سرايا المقاومة وسواها للغاية نفسها، وأنّ الوضع المعيشي والاجتماعي الضاغط سوف يكون الشرارة التي سيجري استغلالها لانطلاق الأمور نحو الأسوأ.
هذه التسريبات والشائعات والاتهامات أكّدت مصادر أمنية لـ«الأخبار» أنّه «ليس هناك أيّ دليل يؤكّد وجودها»، مشيرة إلى أنّ «المخاوف الجدّية تتمحور حول خشية من أن يؤدّي تفلّت الوضع الأمني نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية أكثر واستمرار الانقسام السياسي الى أن يبسط مسلّحون داخل الحارات والأحياء والمناطق سيطرتهم عليها كقوى أمر واقع».
سبقت الصدام بين الجيش ومحتجّين في جبل محسن اشتباكات شبه يومية بين مسلحين في أحياء طرابلسية


أحد أبرز المعالم على هذا التفلّت الذي بدأت بعض مؤشّراته بالظهور، هو اعتراض مجموعات صهاريج محروقات في الشوارع والطرقات ومصادرتها، تحت حجّة أنّها ستباع في السوق السوداء أو سيجري تهريبها إلى الخارج، فضلاً عن اعتصامات شبه يومية تحصل أمام معمل دير عمار الحراري لإنتاج الكهرباء اعتراضاً على التقنين القاسي، أو أمام منشآت نفط طرابلس في البدّاوي احتجاجاً على عدم بيع مادة المازوت لمولدات الكهرباء الخاصة في المنطقة، أو إلى السيّارات والشاحنات التي تعمل على المازوت. وهذه التحرّكات كان الجيش يتدخّل دائماً لفضّها بعد صدامات مع المحتجّين، الذين كانوا يقطعون الطريق الدولي في البداوي ودير عمار والمنية في أكثر من نقطة، ويجعل مرور المواطنين عليه من طرابلس باتجاه عكّار والحدود الشّمالية معاناة حقيقية بكلّ معنى الكلمة.
انفجار الوضع الاجتماعي الذي لطالما جرى التحذير منه وصل أمس إلى منطقة جبل محسن، المعروفة بأنّها تمثل بيئة حاضنة للجيش اللبناني. وأدى صدام غير مسبوق بين الجيش ومحتجّين قطعوا طريق سكّة الشمال أمام مدخل «الجبل» إلى سقوط أكثر من 25 جريحاً، 10 منهم من أفراد الجيش أصيبوا بعد رشقهم بالحجارة، وفق بيان للجيش. وفيما أصيب عدد من المحتجين بالرصاص، يؤشر هذا التطور إلى أن الوضع الاجتماعي والمعيشي الضاغط قد وصل إلى نقطة لم يعد ممكناً تحمّلها والسكوت عنها من أي فئة اجتماعية في مدينة تعدّ الأفقر والأكثر حرماناً بين معظم المناطق اللبنانية.
هذا التطوّر دفع النائب علي درويش الى دعوة أهالي جبل محسن إلى «عدم الاحتكاك مع الجيش اللبناني، الحامي والمدافع عن الجميع وصمام الأمان الوحيد»، مشيراً إلى أنّ أبناء المنطقة «لن يسمحوا بتظهيرهم كأنّهم بمواجهة مع الجيش تحت أيّ مسمّى كان، وهذا ما يجب أن يكون واضحاً للجميع»، مؤكّداً أنّ «جبل محسن كان وسيبقى البيئة الحاضنة للجيش اللبناني وتحت سقفه»، وداعياً إلى «عدم السّماح لأيّ جهة بزجّهم في أيّ مواجهة من هذا النوع».
بدوره، رأى عضو المكتب السياسي في الحزب العربي الديموقراطي حسّان سليمان أنّ ما حصل في جبل محسن هو «عبارة عن احتجاجات مطلبية نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية، وفقدان السلع الأساسية»، مؤكّداً «الوقوف إلى جانب الجيش اللبناني أولاً وآخراً، وكنّا ولا نزال الحاضن له، ونطلب منه أن يكون حاضناً لأهل المنطقة»، وداعياً الجيش إلى «فتح تحقيق لمعرفة حقيقة ما جرى».