لا ينفصل مسار الحركة الدبلوماسية التي تجريها باريس في لبنان عن مسار أوروبي أميركي يهدف الى تشديد الضغط على مسؤولين لبنانيين تتهمهم بعرقلة تأليف الحكومة. لكن هذا المسار يأخذ في الاعتبار معطيات لبنانية وإقليمية تدخل دوماً في المفكرة الفرنسية. يقود وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لو دريان إيقاعاً يتعلق بمؤتمرات دولية لحاجات إنسانية بحتة بعيداً عن أروقة الدولة ومؤسساتها الرسمية بذريعة الخشية من تفلّت المساعدات الى غير أهدافها. فباريس لن تتخلّى عن سعيها الى تمييز الشق الإنساني والاستقرار عن بقية الملفات السياسية، ومنعطف ذكرى 4 آب سيحيي الدفع لتجديد دعم إنساني، يتلاءم مع رؤية الفاتيكان لمساعدة اللبنانيين في الأزمات اليومية.لكن في موازاة ذلك، تبقى فرنسا مصرّة على استكمال اتصالاتها المحلية وعدم قطع علاقاتها مع كل القوى السياسية، وأولهم حزب الله. جاءت لقاءات مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل مع رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، لتطرح مجدداً النقاش حول هذه العلاقة التي تحرص باريس على إظهارها في شكل منفصل عن بقية القوى السياسية، علماً بأن رعد سبق أن التقاه لمناقشة تقدم المبادرة الفرنسية لتأليف الحكومة أواخر العام الماضي، في مرحلة إطلاق التحذيرات الفرنسية من مغبة انهيار الوضع المعيشي والاقتصادي، في تتمة للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع القيادات اللبنانية في قصر الصنوبر.
يأتي الاجتماع متوازياً مع حركة دبلوماسية فرنسية أميركية مشتركة خارج لبنان، للضغط لتأليف الحكومة، وشملت السعودية كطرف أساسي تحاول باريس وواشنطن دفعها لتكون فاعلة في هذه العملية، من دون أن تحظيا بجواب إيجابي من الرياض التي لا تزال مصرّة على عدم تدخّلها في ملف الحكومة.
الانتخابات المقبلة هي الاستحقاق الذي تضعه باريس كمفصلٍ بين مرحلتَين


إلا أن علاقة فرنسا مع حزب الله تتعدّى موضوع تأليف الحكومة. فهي قد تكون العلاقة الأكثر رصداً، في مرحلة العقوبات الأميركية على مسؤولين في الحزب وحلفاء له، وتظهر في أوقات الشدة، كالتي يمر بها لبنان اليوم، تحت المعاينة نتيجة الانقسام السياسي المحلي والخارجي حيال الأزمة اللبنانية وسيناريوات حلّها، وتحميل حزب الله مسؤولية عدم الضغط لتأليف الحكومة لانتفاء حاجته الحالية إليها، وعدم امتعاضه من بقاء حكومة تصريف الأعمال. لا تريد باريس إبعاد حزب الله عن طاولة التفاوض المحلي، أو الإقليمي، وهي في سعيها السابق والحالي الى تأكيد تواصلها مع السعودية من جهة، ومع إيران من جهة أخرى، تريد في الملف اللبناني إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع الحزب، من دون وسطاء. وفي موازاة التشدد الأميركي حيال الحزب في لبنان وفي ساحات وجوده من اليمن الى سوريا، فإن باريس تنظر الى الحزب على أنه إحدى القوى الأساسية المؤثرة في صناعة القرار الداخلي، والتشدد حياله لا ينفع في معالجة الأزمات المتتالية. لكن باريس تعمل ببراغماتية مطلقة مغلّفة بأسلوب دبلوماسي في التعامل مع حزب الله بطريقة مختلفة عن تعاملها الروتيني مع القوى الأخرى التي لا تحتاج معهم الى دبلوماسية القفازات. وعلاقتها بالحزب تأخذ بعداً مختلفاً، ليس فقط لتاريخية دورها في لبنان ووجود القوات الدولية في الجنوب، وتنفيذ القرار 1701، وقبله القرار 1559، إنما كذلك لدور باريس في محاولة خلق صلة بين واشنطن وإيران، فيما عين الجميع على فيينا وما ستتركه من تأثيرات على ساحات المنطقة. وهو ما لم تدخله إيران بعد في حسابات التفاوض التي ما تكاد تتقدم حتى يصيبها الجمود في تفاصيل شائكة.
من هنا، تريد باريس، التي تعطي أولوية لتأليف الحكومة ولكن على قدم المساواة مع ضرورة إجراء الانتخابات النيابية، أن تحصل على ضمانات إجرائها حتى لو لم تتألّف حكومة في المدى القريب. وهي تريد إبقاء خطوطها المفتوحة مع الجميع، بغضّ النظر عن تكليف رئيس جديد لتأليف حكومة أو لا. لأن علاقتها بالحزب لها أبعاد محلية بقدر ما هي أبعاد إقليمية ودولية. لذلك تحاول عدم القفز فوق الاتصالات معه في أي ملف يتعلق بلبنان، كما حصل في مؤتمر دعم الجيش، إذ لا تريد الدفع في أي اتجاه يفهم منه سعيها الى شرخ بين الطرفين، على عكس ما هو عليه الموقف الأميركي في نظرته الى الجيش وتعامله مع حزب الله. وهي تدرك أن من الصعب تجاوز الدور الإيراني، في وقت تسعى فيه واشنطن الى تضييق الأطر الإيرانية، ولكن بهدوء ومن دون ضجة كبيرة، ساعية الى إبقاء خطوط التواصل مفتوحة، وحزب الله أحد هذه الخطوط الأساسية.
ومهما يكن عليه مصير الحكومة بعد اعتذار الحريري، فإن باريس لن تتخلّى عن عمل دبلوماسي ضاغط مع أصدقائها في لبنان لتأمين الاستقرار، حتى لو تعذّر تأليف حكومة جديدة. فالانتخابات المقبلة هي الاستحقاق الذي تضعه كمفصل بين مرحلتين، ومن أجله ستبقى خطوط التواصل مفتوحة مع الأقربين والأبعدين على السواء.