أحد أعراض الأزمة الاقتصادية - المالية التي تضرب البلاد اليوم، هو زيادة حالات الإسهال لدى الأطفال وعودة بعض الأمراض والعوارض الصحية الحادة مجدداً بعد خفوتها سنواتٍ طويلة! الربط هنا ليس سوريالياً ولا تهكّماً، بقدر ما هو واقع يتجسد اليوم مع انفلاش أزمة فقدان معظم لقاحات الأطفال التي لم يبق منها على رفوف الصيدليات سوى نوعين أو ثلاثة توزّعها الشركات المستوردة بـ«الحبة».وفي الآونة الأخيرة، بدأت تتسرب إلى العلن شكاوى أطباء أطفال وأهالٍ من انقطاع غالبية اللقاحات، وخصوصاً تلك التي تُستخدم في فترة ما بعد الولادة، وقد لحق بتلك الشكاوى أخرى صادرة عن بعض المستشفيات التي ترفع الصوت بسبب انقطاع لقاح hepatitis b وهو اللقاح الذي يُعطى للمواليد الجدد في المستشفيات، والذي يندرج ضمن لائحة اللقاحات الإلزامية.
اليوم، لم يعد السؤال في اللقاحات في عيادات أطباء الأطفال مجدياً، بعدما لحق هذا السؤال غيره من الأسئلة عن الأدوية المفقودة. وقد بات من الصعب حصر لائحة ما هو موجود، لسببين أساسيين، أولهما أن «لا شيء ثابتاً الآن مع موجة انقطاع الأدوية واللقاحات بسبب الأزمة»، وثانيهما هو غياب الخيط الفاصل بين ما هو مفقود وما هو مخزّن، خصوصاً في ظل لجوء بعض التجار وحتى الصيدليات إلى «ضب» بعض أصناف الأدوية تمهيداً لما بعد مرحلة رفع الدعم. من هنا، يُجمع عدد من أطباء الأطفال على أن ما هو موجود لا يتعدى الثلاثة لقاحات، ومنها لقاح الحصبة والحصبة الألمانية واليرقان أ (hepatitis a)، وإن كانت هناك أنواع أخرى متوفرة، فهي «ليست عامة، ويمكن أن يحصل عليها الطبيب بمعارفه أو يحصل عليها الأهالي من خلال جولاتهم على الصيدليات». في مقابل ذلك، تكبر لائحة اللقاحات المفقودة يوماً بعد آخر، ويعدّد أحد أطباء الأطفال بعض الأنواع المفقودة ومنها مثلاً «لقاح التطعيم ضد فيروس روتا (مسبب الإسهال لدى الأطفال)، وهو أساسي في مرحلة ما بعد الولادة مباشرة، واللقاحات الثلاثية (شاهوق - خانوق - كزاز) والرباعية (شاهوق - خانوق - كزاز - شلل) والخماسية (الأمراض السابقة يضاف إليها السحايا) والسداسية (الأمراض السابقة يضاف إليها التهاب الكبد الوبائي ب hepatitis b) ولقاحات الحماية ضد سرطان عنق الرحم والتيفوئيد والسل...».
انقطعت معظم لقاحات الأطفال ومنها لقاح «اليرقان ب» الذي يُعطى للأطفال الحديثي الولادة في المستشفيات


لا تتوقّف هذه اللائحة عند حدّ، ومن المتوقع مع اشتداد تداعيات الأزمة المالية أن تطاول ما هو موجود أصلاً، خصوصاً أنه بحسب أحد أطباء الأطفال لم يعد هناك «سوى شركتين إلى ثلاث توزّع لقاحات». يحار هذا الأخير في كيفية تدبّر أموره في اللقاحات، فبعدما كان يودع في عيادته لقاحات تكفيه شهراً، بات اليوم غير قادر على تأمين «يوميته» من تلك اللقاحات، لأسباب منها «أن الصيدليات لم تعد تعطينا حاجتنا إما بسبب عدم تسلّمها الكمية الكافية أو بسبب التخزين وثانياً بسبب انقطاع التيار الكهربائي». من هنا، عمد هذا الطبيب إلى التخفّف من الدوام في عيادته، فبات يفتح «3 أيام في الأسبوع فقط». أما في أيام «خدمته»، فيحاول تدبّر أموره من خلال «معارفه» أو من خلال الطلب من مرضاه «شراء لقاحاتهم من الصيدليات بناءً على الوصفة الطبية». وفي حال فشل الخيارين السابقين، يرشدهم إلى المستوصفات، علّهم يجدون ضالّتهم.
في المبدأ، باتت السرديات متشابهة لدى معظم الأطباء. معظم اللقاحات مفقودة، وما هو موجود لا يعوّل عليه. ولئن كان نقيب الأطباء في بيروت، شرف أبو شرف، يردّ المشكلة إلى سبب أساسي يتعلّق بأزمة الاستيراد و«الفريش دولار»، وأزمة فتح الاعتمادات لدى مصرف لبنان وتأخر البتّ في الملفات «وهو ما يعني 3 أو 4 أشهر قبل أن تحضر اللقاحات»، يضيف أطباء الأطفال أسباباً أخرى، منها الأزمة المستمرة منذ أشهر والتي تتعلق بـ«منع الأطباء من التعامل مباشرة مع الشركات وحصر بيع اللقاحات في الصيدليات»، وقد دفع هذا الأمر برأي الأطباء إلى «السقوط تحت رحمة المستوردين وأصحاب الصيدليات، خصوصاً أن البعض من هؤلاء يمتنعون عن بيع اللقاحات ويفضلون إعطاءها لزبائنهم». أضف إلى ذلك ما يحصل أخيراً بسبب سردية رفع الدعم، حيث يعمد الكثير من المستوردين وأصحاب المستودعات لإخفاء تلك اللقاحات وتخزينها للاستفادة منها ما بعد رفع الدعم. وهو أمر واقع ينسحب أيضاً على ما يحصل بالنسبة إلى الأدوية. وفي هذا السياق، يلفت أبو شرف، إلى أن «النقابة تواصلت مع منظمة الصحة العالمية لمحاولة إيجاد مخرج، وقد عرفنا بأن المنظمة تعمل على تأمين لقاحات للدولة اللبنانية». ولذلك دعا أبو شرف إلى «العمل على إيجاد حلّ، ولو مؤقتاً لمصلحة القطاع الخاص، مقابل أن يكون التلقيح للأطفال في العيادات مجانياً».
لكن، إلى الآن لا حلول، فيما المستوردون وأصحاب المستودعات في وادٍ آخر، إذ يشير هؤلاء إلى أن التوزيع «لا يزال شغّالاً وإن بكميات قليلة»، مع التأكيد أن المخزون من اللقاحات المتبقية يكفي شهراً واحداً في أحسن الأحوال «ومن بعدها الأزمة تأتي». لكنّ السؤال هنا، إن كان المخزون المفترض يكفي شهراً، فأين هي اللقاحات إذاً؟