يروي أحد المصرفيّين البارزين أنه بدأ يتلمّس وجود مشكلة كبيرة في لبنان بعد انضمام روسيا وإيران الى حزب الله في معركة منع سقوط النظام السوري. ويلفت، استناداً الى ما يعتبره معطيات دقيقة، إلى أن الحملة التي انتهت بالحصار الفعلي على لبنان، انطلقت من يومها، ليس فقط لمعاقبة لبنان على عدم منعه حزب الله من التدخل في سوريا، بل لمنع روسيا وإيران من الاستفادة من تطوّرات الأزمة السورية في لبنان.لا ينفي المصرفي المشكلات الهائلة التي تعيشها التركيبة في لبنان، سياسياً أو اقتصادياً أو مالياً أو نقدياً. لكنه يلفت الى أن لبنان واجه أزمة كبيرة خلال العقدين الأخيرين، ولم يكن هناك تدفّق استثنائي للأموال إلا بقرار سياسي. وعندما تقرّر عزل لبنان، صارت العمليات تحصل بالمقلوب، وانطلقت عملية إخراج الأموال سريعاً، حتى جرى ما جرى في تشرين الثاني 2019. وباعتقاد المصرفي نفسه، فإن عدم القدرة على تأليف الحكومة حالياً، يمثّل امتداداً لهذه المعركة، وأن العنصر الداخلي الذي ساعد الخارج غير الراغب في تحسّن الوضع، هو نفسه العنصر الذي جعل حكومة حسان دياب غير قادرة على العمل بقوة وفعالية، مركّزاً على أن فكرة توزيع الخسائر على جميع اللاعبين كانت ممكنة مع الأشهر الأولى لقيام حكومة دياب، لكن هناك قوة كبيرة جداً في لبنان وخارجه منعت الاتفاق.
المؤسسات الدولية التي واكبت كل هذه المحادثات، لديها الانطباع الأكثر خطورة. وهو أن القوى التي ألّفت حكومة دياب لم تكن متّفقة مطلقاً على برنامج العمل، لأن الرجل، وآخرين في الحكومة، يعرفون أنه كان مطلوباً منهم سلسلة من القرارات السريعة والثابتة التي تمنع التدهور الهائل الذي يراد له أن يكون الآن على شكل تضخّم ينهي قدرة الناس على التفاعل الاقتصادي. وما يساعد أكثر على الأزمة، منع أي إجراء لإعادة إطلاق القطاع المصرفي. وبحسب أحد المشاركين في المحادثات مع المؤسسات الدولية المعنيّة بالوضع في لبنان، فإن الخطوات الأولى التي كان يجب أن تقوم بها الحكومة، كانت معروفة ومتداولة ومجرّبة في كل العالم. من المباشرة التنفيذية لعملية الـ«كابيتال كونترول» وفرض قرارات على مصرف لبنان بضخ خمسة مليارات دولار في المصارف ومنع الأخيرة من الإقفال، ثم الشروع في عملية وضع اليد على هذه المصارف من قبل الدولة كما جرى في معظم دول العالم على إثر أزمة عام 2008. وكانت هذه الإجراءات كفيلة بمنع التوجّه الجماعي صوب الهاوية، وبعدم التلهّي بأمور تخصّ التدقيق والتوافق المسبق على المعطيات أو طريقة احتساب الخسائر، لأن الخطوة الأولى تقتضي حسم رأسمال المصارف بصورة تامة، وإلزامها باستعادة جزء من أموالها الخاصة التي هرّبت الى الخارج، وفرض آليّة عمل على مصرف لبنان.
في هذا السياق، يدخل عامل إضافي، يشير إليه مرجع دبلوماسي غير لبناني، على سبيل الإشارة الى طبيعة الانهيار الذي حصل ويحصل في لبنان، ويقود الى استنتاج واضح: هناك من يرغب في فرض الوصاية على لبنان، ولو من باب الأزمة الاقتصادية.
عند هذا الحدّ، تظهر الخلافات الداخلية حول تأليف الحكومة. سعد الحريري لم يكن يريد تأليفها منذ اليوم الأول. هو يريد تأليف حكومة، لكنه لا يريد أن يشاركه أحد في هذه العملية. ويريد العمل وفق التوصيات الخارجية، لكن ليس تنفيذاً تاماً وحرفياً لتوصيات صندوق النقد الدولي. وهو يريد الاستدانة من جديد، لكنه يريد أن تبيع الدولة معظم ما تبقّى لها من أصول لتغذية صناديق المصارف من أجل إعادة الأموال الى المودعين. ويعتقد أن النظام القائم، بوجهَيه القطاعي (المصارف وأصحابها وكبار المساهمين وكبار المودعين) والسياسي (قادة البلاد من رؤساء ووزراء ونواب وأحزاب وشخصيات لها مصالحها في الدولة) لا يجب أن يدفع الثمن، أو لا يجب أن يكون الضحيّة. وهي نتيجة يتشارك فيها مع آخرين من كبار المسؤولين في الدولة، ممّن لا يقلقهم تحميل الناس النتيجة والكلفة من الآن وإلى جيلَين إضافيّين.
في هذا السياق، انطلق قطار التدخل الخارجي. وبما أن العالم لم يكن يوماً جمعية خيرية، وصارت حسابات السياسة أساسية، فإن التمويل الذي تعوّده اللبنانيون تراجع الى حده الأدنى. لم يكن الأمر يقتصر على بلدان أساسية مثل السعودية والإمارات وفرنسا وأميركا، بل يذكر الجميع أن أحد رجال الأعمال البارزين في قطر عمد إلى التهديد بحرب عالمية إن لم يتمّ تحويل أقلّ من 300 مليون دولار من حساباته الى خارج لبنان نهاية تشرين الثاني 2019، أي بعد اندلاع المواجهات وإقفال المصارف أبوابها.
حصل الكثير منذ ذلك الحين، لكنّ مصدراً في مؤسّسة دولية يلفت الى أن المفاوضات كانت تسير باتجاه اتفاق جدّي قبل عام، وأن انفجار المرفأ أعاد خلط الأوراق، وأطلّت المبادرة الفرنسية بطريقة مثيرة للقلق عند القوى البارزة، وغير مفهومة عند كثيرين في لبنان، ويظهر الغربيون، أو العاملون في الغرب، استغراباً للاندفاعة اللبنانية نحو دور لفرنسا التي لم تعد تملك ما يمكنها من فرض معادلة. الكل يعرف أن فرنسا أضعف من أن تفرض موقفاً سياسياً أو خطوة أو قراراً في لبنان. ثمّة مغفّلون لا يزالون يعتقدون بأن باريس قادرة على فعل الكثير، وهي التي تفشل في حماية أبسط مؤسساتها التربوية في لبنان، وتتصرّف بعقليّة فوقيّة وخلفيّة طائفيّة تجاه اللبنانيين. لكنّ فرنسا، لم تكن لتقدر على الوصول الى لبنان لولا التفويض الأميركي. وهو تفويض انطلق من نظرية «الوقت الضائع»، إذ يعرف الأميركيون أنهم، وحلفاءهم كبريطانيا والسعودية، لا يمكنهم القيام بأي مبادرة في لبنان، وأنّ الحيلة الوحيدة بيدهم هو المهرّج إيمانويل ماكرون وفريقه السياسي والأمني والدبلوماسي. أما شركاء ماكرون الأقوى داخل فرنسا، والذين يتمثّلون بشركات القطاع الخاص، فهم الأكثر حماسة لبرنامج عمل كبير تقوم به فرنسا في لبنان، ويستهدف وضع اليد على مشاريع كبيرة تبدأ بإعادة إعمار مرفأ بيروت ومرافئ أخرى، مروراً بمشاريع الكهرباء والاتّصالات، وصولاً الى برنامج دفاعي يبدأ بالبحر.