لمن لا يذكر، فإن السعر الرسمي للدولار لا يزال 1500 ليرة، أو لمزيد من الدقّة هو يساوي 1507.5 ليرات. حتى يوم أمس، كان مصرفيّون يرفضون اعتبار أن زمن السعر الرسمي انتهى. هؤلاء لا يكترثون لكون السعر الحقيقي للدولار وصل إلى 18 ألف ليرة، أي ما يزيد على السعر الرسمي بـ 1200 في المئة.1200 في المئة هي نسبة خيالية. لكن مع ذلك، لا أحد يستطيع أن يضمن بأن لا يصل إلى ألفين في المئة أو ثلاثة آلاف. ببساطة، لا قيمة للعملة اللبنانية، في ظل الانهيار التام للاقتصاد، وفي ظل اللامبالاة التامة من قبل المتحكّمين بمصير البلد. هكذا تُرك الناس يسقطون في الهاوية، وهكذا صار يحكى عن الارتطام الكبير كنتيجة حتمية للسقوط المستمر منذ منتصف 2019، الذي ازداد وضوحاً في الأشهر الأخيرة.
وعلى هذا المعيار، يصبح الحديث عن سعر رسمي باقٍ أو منتهٍ بلا تأثير جدّي على الناس، لكن النقاش يمكن أن يأخذ الطابع التقني، والسؤال هنا: لماذا لا يزال مصرف لبنان متسمكاً بالسعر الرسمي؟ فإذا كان حتى أيام خلت يمكن الإشارة إلى استفادة الناس من هذا السعر لأنه لا يزال معتمداً، وإن بنسبة 85 في المئة، لاستيراد المواد الأساسية، أي المحروقات والقمح والدواء، فإنه بدءاً من اليوم، ستسقط المحروقات، وتحديداً البنزين والمازوت، من هذا الحساب، علماً بأنه حتى سعر الـ 3900 ليرة الذي تقرر اعتماده لتحديد أسعار المحروقات له فترة صلاحية لا تزيد على ثلاثة أشهر. بعد ذلك، يتوقّع أن يتحرّر السعر، أسوة بما حصل مع السلّة الغذائية التي رفع الدعم عنها بشكل تام. تبقى واردات الدواء والقمح مدعومة على سعر 1500 ليرة، إضافة طبعاً إلى الفيول الخاص بمعامل الكهرباء (وهو واجب البنك المركزي كونه مصرف الدولة وملزماً بتامين الدولارات لها). لكن مع ذلك، فقد طالها «الترشيد» من خلال تقنين مصرف لبنان لفتح الاعتمادات. وهو ما يظهر جلياً عبر فقدان معظم الأدوية من الصيدليات. حتى الخبز تحرّر سعره تقريباً. ولم يبق سوى القمح من بين كل مكوناته مدعوماً. وفي كل الأحوال، فإن بقاء الدعم على هذه المواد والسلع لن يدوم، بعدما ربط رفعه بإقرار البطاقة التمويلية، التي يتوقع أن يقرّها المجلس النيابي الخميس المقبل.
يؤكد مصدر مصرفي مطّلع على عمل مصرف لبنان أن لا توجّه لتغيير سعر الصرف في المدى المنظور، منطلقاً من أن خطوة كهذه ستخلق ضرراً كبيراً بأربع فئات، وهي: المقترضون بالدولار، المستأجرون، المشتركون بالهاتف الخلوي ودافعو الضرائب والرسوم.
لكن في المقابل، توضح مصادر معنيّة أن المقترضين بالدولار انخفض عددهم كثيراً، مع توقعات بأن لا تزيد قيمة هذه القروض على مليار دولار. إذ إن الكتلة الأكبر من قروض الأفراد هي قروض إسكانية، وهذه أغلبها بالليرة، أضف إلى أن تسعير الدولار على سعر 3900 ليرة على سبيل المثال، سيُبقي هؤلاء مستفيدين من الفارق الكبير مع سعر السوق. أما بشأن الهاتف الخلوي، فليس المطلوب سوى العودة عن «النصبة» التاريخية التي جرت في عام 1994، حين كانت المرة الأولى التي يسمح فيها بالتسعير بالدولار. ومن المستغرب استمرار تسعير خدمات الاتصالات الخلوية بالدولار، رغم أن القطاع مملوك من الدولة، ويبيع المشتركين خدمة عامة. أما مسألة الإيجارات، فالعاملون في القطاع يتحدّثون عن فوضى عارمة تجتاحه، بصرف النظر عن مسألة الدفع حسب السعر الرسمي.
لا قيمة لتحرير سعر الصرف من دون تصحيح الرواتب


لكن مع ذلك، فإن من يشير إلى هذه المسائل محقّ، إذ إن تأثير تغيير سعر الصرف لا بد أن يكون قاسياً على نسبة من الناس، ولا سيما المقترضين، لكن في المجمل، فإن من تآكلت رواتبهم من جراء التضخم الهائل في الأسعار، صاروا مدركين بأن السعر الرسمي ليس هو القضية، إن كان 1500 ليرة أو 3900 ليرة أو 10 آلاف ليرة. المشكلة الأساس هي السعر الحقيقي للدولار، والذي يساهم في تحديد أسعار معظم السلع والخدمات. ومع ذلك، فإن من يركز على الضرر الذي يلحق بالناس من جراء أي تعديل في سعر الصرف، إنما يتغاضى عمداً عن أمر أساسي، هو أن المصارف هي أكبر المستفيدين من الواقع الراهن. فمعاملاتها مع المصرف المركزي تتم على السعر الرسمي، وهذا يشمل احتساب رساميلها، وشراءها الدولارات وتسديد القروض المتوجبة عليها وتكوين المؤونات، وصولاً إلى إطفاء الخسائر، وحتى تحويل حسابات النافذين إلى الدولار. وهذا يؤدي بالنتيجة إلى نفخ حساباتها وتقديم صورة مزوّرة عن واقع القطاع. فعلى سبيل المثال، تُقدّر رساميل المصارف بـ 18 مليار دولار حالياً، منها 5 مليارات دولار فقط بالدولار، فيما المبلغ المتبقي، أي ما يعادل 13 مليار دولار مقوّم بالليرة على السعر الرسمي (19.5 تريليون ليرة)، علماً بأن احتساب هذا المبلغ على السعر الفعلي للدولار سيُخفّض مجموع الرساميل إلى ما دون الـ 6 مليارات دولار. والأمر نفسه يشمل الـ 20 في المئة التي طلب مصرف لبنان من المصارف زيادتها على رأس المال. كذلك، لا ينسى المصدر التذكير بأن المصرف المركزي الذي طلب من المصارف تكوين مؤونات تُقدّر بـ 45 في المئة من قيمة سندات اليوروبوند كضمانة (نحو 5 مليارات دولار)، وافق على بيع 30 في المئة من هذه الضمانة للمصارف (نحو مليار و650 مليون دولار) على السعر الرسمي. وأكثر من ذلك، تضمّن العقد إمكانية شراء المصرف المركزي لهذه الأموال مجدداً على سعر المنصة!
هل يعني ما سبق أن من مصلحة الناس تحرير سعر الصرف؟ يجزم خبير اقتصادي متابع أن سعر الصرف لا يُعالج وحده، بل يفترض أن يكون جزءاً من عملية تصحيح شاملة للحسابات الاقتصادية، أي تصحيح الأجور والرسوم والضرائب، وبالتالي على المعنيين أن يقولوا ما هي خطتهم لتفعيل الاقتصاد، قبل الحديث عن تصحيح سعر الصرف. أي عليهم أن يعلنوا، على سبيل المثال، هل يريدون فك ارتباط الاقتصاد بالدولار، أم يريدون تكريس دولرة الاقتصاد؟ إذا كانوا يتجهون للخيار الثاني بطبيعة الحال، فإن ذلك يستتبعه تغيير في الحسابات الاقتصادية، وفي مقدمها الأجور والرسوم، بحيث يفترض أن تصحّح الأجور بما يسمح بالحفاظ على قدرتها الشرائية. وعليه، فإن السعر الرسمي للدولار بحدّ ذاته ليس هو القضية، بل كيفية تأثيره على الدورة الاقتصادية. وهو لا يقدّم ولا يؤخّر بالنسبة إلى الناس، إذا بقيت رواتبهم كما هي. فتعديل السعر الرسمي ليصبح عشرة آلاف على سبيل المثال لن يؤثّر شيئاً على الذين يستهلكون، في كل الأحوال، وفقاً لسعر السوق.