سلاح حزب الله جزء لا يتجزّأ من العوامل التي تؤثر في توجهات «إسرائيل» وقراراتها إزاء الساحة اللبنانية، بل إنه أكثر تلك العوامل أهمية. ليس حصراً في أنه يفرض معادلات وقواعد اشتباك تمتنع تل أبيب بموجبها عن المقاربة العسكرية وفي حدّ بعيد الأمنية، بل ينسحب كذلك إلى كل ما يتعلق بالساحة اللبنانية وامتداداتها.«النزاع» على الحدود البحرية، والثروة الغازية الكامنة من تحتها وعلى جوانبها، جزء من هذه الساحة. وإنْ كانت المعادلة الردعية القائمة على وجود سلاح حزب الله وإرادة استخدامه إن لزم الأمر، هي التي تفرض على «إسرائيل» الانكباح والامتناع عن أي مقاربة متطرفة، فالأَولى أن تكون كذلك، بل أشد وأكثر تأكيداً، بما يتعلق بـ«خلاف الحدود والغاز» الذي يدرك العدو أن تأثيراته لا تقتصر عليه في ذاته، بل تمتد لتؤثر في مجمل المسائل «العالقة» بين لبنان والعدو. فقطاع الغاز وما يرتبط به، لا يتحمل جولات تصعيد، مهما صغرت أو كبرت.
وكما ورد ذكره، لا تقوى «إسرائيل» على تحمّل تبعات أي تصعيد يتعلق بقطاع الغاز في مواجهة لبنان، بصرف النظر عن قدرتها هي على إيذاء لبنان. المقصود هنا، هو تدخل حزب الله، بوصفه مقاومة مسلحة، لمواجهة «إسرائيل» بما يشمل المواقف التهديدية التي يمكن أن تصدر عنها، فضلاً عن التلويح بقرارات استخدام القوة العسكرية، وكذلك محاولة قضم الحق اللبناني الحدودي والغازي من طرف واحد. وما بين الموقف التهديدي الكلامي المجرد، والتصعيد العسكري الشامل، خطوة تصعيدية ما، لا يمكن للجانبين إمساكها ومنعها من الانزلاق إلى مواجهة «غازية» عسكرية مرشّحة بدورها، وهي كذلك، إلى التسبب بمواجهة عسكرية شاملة.
على ذلك، وغيره من الأسباب المساقة في الجزءَين الأولين من هذا البحث، تعمل «إسرائيل» على إيجاد حلٍّ ما يمنع التصعيد، بكلّ أشكاله، بين الجانبين. المقصود ليس حصراً ما يتعلق بمواجهة عسكرية تضر بكل ما يرتبط بقطاع الغاز الإسرائيلي، وهو قطاع واعد جداً واستراتيجي جداً لتل أبيب كما سلف ذكره، بل أيضاً ما يتعلق بمجرد إطلاق تهديدات كلامية تصدر من هنا وهناك. وما تقدّم يشمل العدو أيضاً، إلى حد «اختفاء» السرديات الإعلامية التي تذكّر بإمكانات حزب الله العسكرية وقدرته على إيذاء هذا القطاع، سواء جاءت السردية لتتناول حالة التصعيد النقطوي، أو الأيام القتالية المحدودة، أو تلك المتعلقة أيضاً بالمواجهة الشاملة بين الطرفين.
هذه هي القاعدة التي تبني عليها «إسرائيل» قراراتها وأفعالها، بما يشمل تصريحات مسؤوليها وتقارير إعلامها الذي يتقيّد - في هذه الحالة المرفوعة في أهميتها إلى مستويات استراتيجية تمسّ أمن «إسرائيل» ومقوّماتها - بقرارات وتوجيهات عُليا لخدمة هذه التوجهات. والحل، كما تعمل تل أبيب عليه، يتلخّص بالآتي:
1- امتناع «إسرائيل» عن أيّ مقاربة عسكرية أو أمنية، أو التهديد بها، لفرض الإرادة على الجانب اللبناني، بكل ما يتعلق بالحدود البحرية والثروة الغازية التي تدّعي حقاً فيها. امتناع يكاد يكون مطلقاً، بل إن فرضياته وسيناريوهاته شبه مغيبة عن التقارير الإعلامية العبرية، فضلاً عن تصريحات ومواقف مسؤولي العدو. وهذه الضابطة حاكمة ومفعّلة وصلبة جداً، في كل ما يصدر عن «إسرائيل» من مواقف وتحليلات وتعليقات ودراسات، حتى تلك المتعلقة بالمواجهة العسكرية الشاملة بين الجانبين، وهي الفرضية الأكثر تطرفاً، وعادة ما يتم تداولها وتكون موضوعاً للتداول والتعليق والبحث في الإعلام العبري. وتبدو الأمور، لهذه الناحية، كأنّ المنشآت الغازية والقطاع الغازي، بعيدة عن ساحة المواجهات بين حزب الله والعدو. وهذه المفارقة تستأهل التأمّل والمتابعة.
وتحرص «إسرائيل» على الامتناع عن إطلاق التهديدات بكل ما يتعلق بالحد البحري والغاز، حتى وإنْ أفقدها واحداً من أهم أسلحتها التي تلجأ إليها عادة في مواجهة أعدائها لردعهم عن الإضرار بها. وهذا الامتناع قائم وراسخ، رغم أنها معنية بإطلاق التهديدات والتلويح بها، وهو ما يتوافق مع توجهاتها و«طبيعتها» ويعزّز من أوراقها التفاوضية مع لبنان، في مقابل إضعاف أوراق المفاوض اللبناني.
2- مقابل الامتناع عن التهديد والخيارات العسكرية، بل والامتناع عن مجرد ذكرهما، وإنْ عبر فرضيات تكاد تكون مغيّبة في «إسرائيل»، تؤكد تل أبيب وجوب اتّباع مسار «الحلول التسووية والتنازلات المتبادلة، بوصفها الحل الأمثل والأوحد والأكثر إفادة للجانبين، بكل ما يتعلق بالخلاف البحري». والتسوية المطلوبة هنا، حسبما تؤكد تل أبيب، تُلزمها بالاستعداد للتنازل للبنان، شرط أن تتلقى تنازلاً مقابلاً، يؤدي إلى التسوية المنشودة. وعلى هذه الخلفية، تسهّل إجراء المفاوضات وتطلبها وتعمل لأجلها، سواء تلك غير المباشرة بحلتها القديمة بدءاً من عام 2009، أو تلك القائمة بالحلة الجديدة منذ خريف العام الماضي.
بقاء المفاوضات، من دون إعلان موتها، يحقّق لـ«إسرائيل» فائدة استراتيجية في أكثر من اتجاه ومستوى


في هذه النقطة تحديداً، تحرص «إسرائيل» على جملة ضوابط تفرضها شكلاً ومضموناً وبما يتعلق بهوية الجهة الراعية والوسيطة، كي لا تشكل المفاوضات نفسها عامل ضغط عليها، منعاً لانتهائها بما لا يمكن أن يتوافق مع المصالح الإسرائيلية. وهنا الراعي، كما هو معلوم، هو الراعي الأميركي، الوحيد المقبول إسرائيلياً.
وفي هذه النقطة أيضاً، تحرص «إسرائيل» على تظهير توجهاتها التسووية المعلنة عبر التفاوض، على أنه توجه اختياري مبنيّ على «بادرة طيبة» من جانبها تجاه لبنان، في موازاة الحرص أن لا ينكشف سبب توجهها الرئيسي، وهو الخشية من تداعيات اللامفاوضات على قطاعها الغازي. الحرص هنا يهدف إلى إبعاد فرضيات الرضوخ للتسويات تحت ضغط السلاح والرضوخ لإمكاناته، سواء كان هو السبب في التوجه للتسويات من الأساس، وهو كذلك، أو لم تكن تأثيراته في مستويات دفعها للتنازل.
3- تأكيد الدخول في مفاوضات، مهما كان الموقف اللبناني «متعنّتاً وصلباً»، وبحسب تعبيرات إسرائيلية «متقلّباً»، هو توجّه يؤمل منه تحقيق واحدة من نتيجتين، او النتيجيتن معاً إنْ أمكن:
في حال نجاج المفاوضات، وقبول لبنان بالتنازل عن جزء من حقوقه البحرية، تكون «إسرائيل» قد حققت نتيجة تعود بالفائدة الاقتصادية عليها في مستوى أول، بينما في مستوى ثانٍ، تحقق نتيجة مبنية على نجاح المفاوضات والتنازل اللبناني، بأن يؤدي الى تغيير في العلاقة مع الجانب اللبناني الرسمي، لسحب منطق التنازل الذي أبداه في المفاوضات الحدودية على ملفات خلافية أخرى تتعلق بالثروة الغازية والنفطية المرشحة لأن تكون أيضاً موضع خلاف في الحيّز البري بعد المائي، وكذلك الثروة المائية اللبنانية التي هي موضع مطالبة تاريخية لدى العدو، وهو ما ينسحب أيضاً على جملة خلافات على الحدّ البري، الذي تدّعي «إسرائيل» حقاً فيه.
في حال فشل المفاوضات، واتجاه الجولات التفاوضية الى المراوحة والتسمّر في مكانها بلا نتائج، تعمل «إسرائيل» على القيام بدور الحريص عليها وعلى التمسك بها وتتمنّع عن إعلان إنهائها. حتى وإن قررت تجميد الجولات التفاوضية، كما حصل أخيراً، فتأتي ضمن توجه مقصود مع حرص على العمل على إعادة إحيائها لاحقاً. بقاء المفاوضات، من دون إعلان موتها، يحقّق لـ«إسرائيل» فائدة استراتيجية في أكثر من اتجاه ومستوى، إذ من شأن صورة التفاوض، وإنْ كان شكلياً، أن تُبعد التهديدات والحديث عنها، وتعزّز «أجواء» الحلول والتوجه الى تسويات وما تسمّيه الاستقرار، كما تسبّب بالابتعاد عن تداول فرضيات متطرفة وتهديدات تؤثر سلباً على الثقة بالقطاع الغازي في «إسرائيل»، وكل ما يتعلق به، كما وردت تفصيلاته سابقاً.
في الحالتين، نجاح المفاوضات أو مراوحتها مكانها، هي فائدة لـ«إسرائيل»: نجاح المفاوضات المبنية على التنازل اللبناني (التسوية)، مكسب إسرائيلي وفائدة اقتصادية؛ أما إنْ راوحت المفاوضات مكانها، فتساهم في تحقيق الفائدة الإسرائيلية الأخرى الموازية التي تنشدها: الاستقرار والابتعاد عن التهديدات لزوم التفاوض، ومن ثم إبعاد التأثيرات السيئة للتهديدات لكل ما يتعلق بالقطاع الغازي.
وبخلاف ما يتردد في لبنان عن مرحلة ما بعد التفاوض، وكأنّ الأمور باتت معبّدة أمام قدرة لبنان على استثمار غازه في منطقة الحدود الجنوبية، فإن التنازل المفضي إلى اتفاق مع «إسرائيل»، لا يعني فتح الأبواب على مصراعيها لاستخراج الثروة الغازية جنوباً.
وفقاً لما أثير في ندوة نظّمها مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي بشأن ترسيم الحدود البحرية والعلاقات بين الجانبين، يدّعي مسؤولون على اطّلاع على ملف التفاوض وحيثياته ومقدماته، أن التسويات التي بدأت تسعى إليها تل أبيب منذ عام 2009، لا تقتصر كغاية نهائية على الحد البحري، بل أيضاً على تقاسم الثروة ضمن هذا الحدّ، وخاصة مع تشابك وتداخل الثروة الغازية على جانبَي الحدود البحرية. وهو ما يؤدي لاحقاً الى مفاوضات في مستوى ثانٍ، تتعلق بكيفية توزيع هذا الثروة، التي لا تتحدّد وفقاً لخط الحدود، بل وفقاً للكميات المرصودة للثروة وعمقها وقدرة استخراجها وتسويقها وإمكانات الجانبين المادية في تحصيلها، إضافة الى الحد الجغرافي المتفق عليه كتسوية للحدود، كما هو جارٍ العمل عليه.
المعنى، كما يرد في تصريحات صدرت عن مسؤولي ملف التفاوض في وزارة الطاقة الإسرائيلية، أن التفاوض الحالي غير كاف، بذاته، لإيجاد حل يمكّن لبنان من استخراج ثروته الغازية. والتسوية، في حال التوصل إليها بما يتعلق بالحدود، ضمن هذا الخط أو ذاك، ووفقاً لهذه النسبة أو تلك، هي مجرد مقدمة لمفاوضات لاحقة تتعلق بالثروة نفسها الكامنة تحت الخط المتفق عليه وعلى جانبَيه.