مع عودة الحديث عن استئناف المفاوضات «غير المباشرة» على الحد البحري بين لبنان والعدو، تعود أسئلة التفاوض وإمكاناتها وتقدير نتائجها للبروز على طاولة النقاشات. هل يمكن التوصل إلى نتيجة؟ استئناف المفاوضات مطلب إسرائيلي، لا شك فيه، كما هو مطلب لبناني، إلا أن الأهداف، بين الجانبين، متباينة.وفقاً لرئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض، المدير العام لوزارة الطاقة الإسرائيلية، أودي أديري، «إنْ كان بالإمكان تحصيل كميات من الغاز الطبيعي في المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، فليكن». تصريحات أديري جاءت في كلمة ألقاها في مركز أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، بداية الشهر الحالي، شدّد فيها أيضاً على ضرورة استئناف المفاوضات، والتوصل سريعاً إلى «حلّ ما»، يؤدي إلى الاستقرار وإلى تطوير حقول الغاز كما هو مخطط له، في المنطقة.
الأهم في ما ورد في تصريح أديري هو «الاستقرار»، بوصفه هدفاً رئيسياً لعملية التفاوض مع الجانب اللبناني. أما إمكان تحصيل الغاز «المتنازع عليه» نتيجة المفاوضات، فيؤكد على التمني الذي أطلقه أديري بعبارة «فَلْيَكُن».
ويستدل على هذا «الاستقرار» أيضاً بما ورد على لسان وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينتس، في مقابلة مع موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت» عام 2018: «إسرائيل غير معنية بالتصعيد مع لبنان. وهي تريد حلاً دبلوماسياً للنزاع. لكن (عليهم أن) لا يهددوا، ولا يلجأوا إلى التهديد». من الجانب اللبناني، كما هو واضح ولا لبس فيه، للحد البحري جنوباً سلة أهداف لا تقتصر على استيلاد فرصة لاستخراج الغاز اللبناني في المنطقة الجنوبية، بل أيضاً على تأكيد السيادة على حيز بحريّ واسع نسبياً، وعلى الطريقة التي يمكن من خلالها الاستحصال على هذا الحق، ولاحقاً، الطريقة التي يمكن استخراج الغاز عبرها.
يالطبع، التجاذب السياسي في لبنان موجود ولا يمكن إنكاره. فبين «أنا وأنت»، و«مصلحتي ومصلحتك»، و«هذا يفيد وذاك يضر»، وبين خشية من الانجرار إلى التطبيع مقابل (ربما) العمل عليه، والخشية من المفاوضات وتأثيراتها اللاحقة على المصلحة اللبنانية، إضافة إلى الثروة التي يجب العمل على استخراجها في نهاية المطاف كحق من الحقوق اللبنانية... تأتي الفرص والتهديدات، وأهم ما فيها أن تدفع المفاوض اللبناني وإدارة التفاوض، إلى الحذر والجدية، والامتناع عن التفريط بالحقوق اللبنانية، أو توسعة المفاوضات إلى ما تعمل عليه «إسرائيل».
في ما يرتبط بالعدو، من المفيد الإشارة إلى جملة نقاط، بمعنى «إضاءات» على موقف تل أبيب، من شأنها كشف موقفها من عملية التفاوض أمام الجمهور، كما هو بلا ساتر تعمل على إبقائه عالياً وكثيفاً كي يخفي حقيقة الموقف. وهي نقاط إيضاحية، من شأنها أيضاً إعانة المفاوض اللبناني على تفسير جملة تساؤلات سبقت ولا تزال تواكب أهداف «إسرائيل» من عملية التفاوض.
1ـ واجهت «إسرائيل» منذ أن اكتشفت الشركات الأميركية الغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخالصة لفلسطين المحتلة، مروحة واسعة من التحديات المرتبطة بالثروة الغازية. لبعضها أولوية كان لا بد من الانشغال بها، من بينها تحديد المنطقة الاقتصادية وتقسيمها واختيار من يستخرجها وعائده الاقتصادي، ولاحقاً تحديد الأسواق التي ستكون هدفاً للغاز الإسرائيلي وطرق استخراجه ونقله، ضمن توقيت ومسار زمنيَّيْن يجب الحرص على إنفاذهما بسرعة منعاً للتنافس الإقليمي الذي كان في حينه مرشحاً بقوة ومدعاة قلق إسرائيلي. ومِن ذلك التنافس ما كان قابلاً للحل عبر إدخال المنافسين المحتملين في شراكةٍ عَمِلَ عليها بحرص ومهنية، كما هو الحال مع الجانب القبرصي. أما تجاه لبنان، فتطلّب الأمر «معالجة» خاصة، ليس حصراً تجاه ما يتعلق بالخلاف الحدودي البحري، وليس حصراً على الثروة الغازية الكامنة في منطقة الحدود، بل طلباً للاستقرار الأمني الذي يُعد، من ناحية الغاز الإسرائيلي، «أوكسيجين حياة».
سؤال التهديد باستخدام السلاح في «حرب الغاز» مطروح على شركات التنقيب عن الغاز واستخراجه ونقله، كما على شركات التأمين


2- كان الهاجس الإسرائيلي الرئيسي من الجهة اللبنانية، هو الهاجس الأمني المتمثل بالإمكانات العسكرية النوعية لدى المقاومة اللبنانية، حزب الله. أسلحة نوعية وإرادة سياسية على اتخاذ قرار استخدامها ضد المنشآت الغازية الإسرائيلية في عرض البحر وما يتصل بها، في حال تعرّضت المصالح اللبنانية الغازية مستقبلاً للتهديد. هذا الهاجس كان وما زال، مسمّراً على طاولة التخطيط والقرار في تل أبيب، ومفاعيله وتأثيراته أكثر بكثير مما تحاول «إسرائيل» إخفاءَه. وهذا الإخفاء يُعَد بدوره جزءاً لا يتجزأ من مواجهته.
بعيداً عن «أخطاء» تضمّنت سيلاً من التهديدات ضد لبنان واللبنانيين «إنْ قرر حزب الله الإضرار بالمنشآت الغازية»، وأيضاً سيلاً كبيراً من التقارير التي تتحدث عن القدرة الفعلية لدى حزب الله على الإضرار بالغاز الإسرائيلي إنْ قرّر ذلك... بعيداً عن كل ذلك، قرّرت «إسرائيل» لاحقاً الصمت إزاء التهديدات من لبنان. وعملت بجدّ على تحويل هذا التهديد إلى فرصة: «إذا كانت المنطقة المتنازع عليها، كما تسمّيها وتدّعي حقاً فيها، مدعاة تهديد ومحرك تهديدات، فلتتحول إلى محرك استقرار». الوجهة الإسرائيلية اتّضحت من اليوم الأول الذي استيقظ فيه التقدير الإسرائيلي بأن التصعيد، والحديث عن التصعيد وإمكاناته، مهما كانت مآلاته، كل ذلك سيّئ وصعب ومضر بـ«إسرائيل».
ولتبسيط المطلب، السؤال المفترض أن يكون بارزاً، وهو كذلك، على طاولة التخطيط والقرار في تل أبيب هو الآتي: «ماذا لو قرّر حزب الله استخدام سلاحه ضد المنشآت الغازية وأنشطة استخراج الغاز في المتوسط؟ الإجابات كلها، دون استثناء، سيئة جداً».
الأهم في مسألة التهديد، هنا - مع اطمئنان إلى أن «إسرائيل» عاينتها على هذا النحو - أن مواجهة تأثيرات التهديد، كما تداعياته، لا تقتصر على تل أبيب وحسب. وكل الأساليب المتبعة لديها تقليدياً في صدّ التهديدات أو تقليصها أو تأجيلها، غير ذات صلة بالتهديد الحالي، وليست حاسمة في منع التهديد، ناهيك عن مفاعيله. فلاعبون آخرون هم عرضة للتأثير والتأثر في ساحة المواجهة وتداعياتها، وهم تحديداً الجهة الرئيسية التي تحدّد مصير القطاع الغازي ونتائج أيّ تصعيد عليه، في أعقاب استخدام حزب الله سلاحه؛ وهو عامل مستقل عن «إسرائيل»، وقراره النهائي ليس بيدها.
ماذا لو قرّر حزب الله استخدام سلاحه، أو التهديد الفعلي باستخدامه؟ هي أسئلة وغيرها تتعلق بشركات التنقيب عن الغاز وعن استخراجه ونقله وتسييله ومن ثم نقله إلى أسواقه. التهديد، هو عامل ضاغط على هذه الشركات، التي ستكون معنية بطلب ثمن للمخاطرة بعد تلقي التهديدات، وهي أثمان ترتفع في موازاة صدقية التهديد، الذي لا يختلف اثنان فيه. للتهديد، كما يرد هنا، أثمان على «إسرائيل» أن تدفعها، وهو ما لا علاقة له بمنعتها هي أو قرارها أو مثابرتها وصبرها في مواجهة التهديدات.
كذلك، في مواجهة السؤالين عن تهديدات حزب الله، تبرز قرارات ترتبط بشركات التأمين، التي ستكون أيضاً معنية بتدفيع الشركات، ومن ثم «إسرائيل»، أثمانَ المخاطرة وارتفاعَ منسوبها. في حالات محددة، وضمن مستويات تهديد مرتفعة، ربطاً بتصعيد ما، يمكن أن تعمد هذه الشركات إلى وقف التأمينات على عمليات التنقيب والاستخراج، بما يشمل مقوّمات المنشآت المادية والبشرية. وهنا تكون النتيجة أكثر من سيئة لـ«إسرائيل»: وقف عمل المنشآت الغازية، وتزعزع الثقة بالغاز الإسرائيلي وأمنه، وتردّد أسواقه طويلاً في طلبه كونه غير آمن، ما يؤدي إلى خسائر إسرائيلية استراتيجية، قد لا تقوى على تحملها.
إضافة إلى العاملين الاثنين المساقين هنا، ناهيك بالإضرار بصورة «إسرائيل» القادرة على مواجهة التهديدات بوصفها الساحة الجاذبة والآمنة للاستثمارات والشركات الكبرى، وكذلك الضرر المرتبط باقتصادها وغازها... فإنّ لإمكان استخدام حزب الله سلاحه، أو التهديد الجدي به، تداعيات يتعذّر على «إسرائيل» مواجهتها، وهي معنية بالحؤول دونها. بطبيعة الحال، قرار «إسرائيل» هو منع حزب الله من استخدام سلاحه، كما التهديد به، ربطاً بتأثيراته السيئة كما ذُكر. لكنّ استخدام «إسرائيل» خياراتها العسكرية، بهدف المنع وقائياً، وكذلك التهديد باستخدام هذه الخيارات بهدف الردع المسبق، يجرّان بطبيعة الحال ردَّ فعلٍ إلزاميّاً من جانب حزب الله، سواء ما يتعلق بالرد على الخيارات العسكرية باستخدام خياراته العسكرية في المقابل، أو الرد على التهديد الكلامي التصعيدي بالتهديد الكلامي التصعيدي. النتيجة أن خيارات «إسرائيل» وأساليبها التقليدية في تحقيق أهدافها وفرض إرادتها على الآخرين، عبر السلاح و/أو التهديد باستخدامه، تؤدي إلى النتيجة نفسها التي قامت بتفعيل هذه الخيارات للحؤول دون الإضرار بالقطاع الغازي وما يرتبط به.
في الوقت نفسه، لا يمكن لـ«إسرائيل»، بسبب خلفيات أخرى مرتبطة بأمنها وبمعادلات قائمة على حدّ السيف بينها وبين حزب الله، وكذلك ما يتعلق بقواعد اشتباك صارمة بين الجانبين، أن ترضى أو تقوى على تحمّل تبعات التراجع عن حق تدّعيه في المياه الإقليمية والاقتصادية الخاصة بلبنان. وبالتأكيد لا يمكنها التراجع، مع إدراك عدوها وصديقها، وكذلك جمهورها، أنها تراجعت نتيجة سلاح حزب الله ونتيجة إمكانات تفعيله ضدها. هنا كمنت المعضلة الإسرائيلية، وما زالت، في مواجهة تحدي الحدود اللبنانية والغاز الطبيعي الكامن فيها. وهي معضلة لا تقتصر على ذاتها، بل تمتد تأثيراتها إلى ما ورائها لتؤثر في ملف وتحديات أخرى، أكبر وأشمل وأكثر تأثيراً على (وتهديداً لـ) الأمن الإسرائيلي.
بين الحدّين، قرّرت «إسرائيل» استراتيجية المواجهة ضد التهديدات على الحدود البحرية وانطلاقاً منها. وهو ما سيرد تفصيله.