استمرار محطة الحاويات في مرفأ بيروت في العمل كان أعجوبة بعد انفجار الرابع من آب 2020. لكن ثمة، ربما، من لم يرد لمرفق عام في كل الدولة الاستمرار في العمل وجني الأرباح لمصلحة الخزينة، فقرّر «قطع رزق» الدولة بأمر قضائي، وبموجب دعوى مقدّمة من... نقيب المحامين ملحم خلف وزملاء له. هكذا، منذ شهرين، لم يعد أي دولار يدخل الى المرفأ، ما أثّر على عمل محطة الحاويات وحال دون صيانة رافعاتها التي تتعطّل واحدة بعد أخرى، ويصل عدد ما يعمل منها اليوم إلى 6 رافعات من أصل 16. التوقعات تشير الى «نهاية وشيكة» للمرفأ، في ظل صمت مريب لا يمكن فصله عن رغبة دفينة بخصخصة أصول الدولة وبيعها، وفي مقدمها «بور» بيروت
«محطة الحاويات في مرفأ بيروت شبه مشلولة وقد تصبح مشلولة بالكامل». ليس هذا توقّعاً عشوائياً في بلد تنهار كل مؤسساته وقطاعاته، بل فقرة وردت في بيان أصدرته الغرفة الدولية للملاحة أمس. فمحطة الحاويات المجهزة بـ 16 رافعة جسرية لتأمين تفريغ وشحن سفن الحاويات، ويتم عبرها أكثر من 70% من حركة التجارة الخارجية، في طريقها الى الخروج من الخدمة مع تعطل 10 رافعات واستمرارها في العمل بـ 6 رافعات فقط. المشكلة الرئيسية، هنا، أن الادارة عاجزة عن تأمين الأموال بالدولار وتحويلها إلى الموردين في الخارج لشراء قطع الغيار اللازمة لإصلاح معدّاتها، من رافعات جسرية وآليات وقاطرات... لأن ثمة من جهد، عن قصد أو من دونه، لإفلاس المرفأ بعد صدور قرار قضائي (4 آذار 2021)، عن رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت القاضية نجاح عيتاني، بإلقاء الحجز الاحتياطي على الأموال العائدة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت، وعلى الأموال العائدة لمن سمّتهم «الأشخاص الثالثين»، أي الشركات المستوردة عبر المرفأ، إضافة الى الأموال المحوّلة الى مصلحة الصرفيات في وزارة المالية. الحكم جاء بعد دعوى قدّمها في الأساس نقيب المحامين ملحم خلف و23 محامياً بالوكالة عن بعض المتضررين من انفجار المرفأ، طلبوا فيها إلقاء الحجز على أموال إدارة مرفأ بيروت، ممثلة بشخص ممثلها القانوني، إضافة إلى كل من: حسن قريطم، محمد العوف، شفيق مرعي، هاني الحاج شحادة، موسى هزيمة، نعمة البراكس وعبد الحفيظ القيسي، من دون أن يُعرف لماذا اختيار هؤلاء الأشخاص دون غيرهم. كما طالبوا بتعويض كل متضرر مليوني دولار أميركي إضافة الى المصاريف القانونية المقدّرة بـ 200 ألف دولار.
القضاء حجز على مداخيل المرفأ رغم أنه قانوناً لا يمكن الحجز على أموال الدولة


تكاملت هذه الدعوى مع قرار أصدره المحقق العدلي السابق في جريمة المرفأ، فادي صوان، بناءً على نص المادة ٢١٠ من قانون العقوبات، المتعلقة بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، والتي من شأنها جعل إدارة واستثمار مرفأ بيروت ــــ كشخص معنوي ــــ مسؤولة جزائياً عن أعمال مديريها وأعضاء إدارتها وممثليها وعمالها، وعن الالتزامات المدنية التي قد يحكم بها لمصلحة المتضررين من شركات ملاحة بحرية وشركات تأمين وأصحاب سفن بحرية وأهالي ضحايا ومتضررين في المناطق المجاورة.
هكذا، أُجبرت كل الوكالات البحرية والمؤسسات والشركات المتعاملة مع مرفأ بيروت على التوقف عن دفع رسوم عمل البواخر وشحن البضائع وما يرافقها من تكاليف الى إدارة مرفأ بيروت، وتحويل الأموال الى صندوق المحكمة. أدى ذلك الى تجفيف المداخيل التي كانت تجنيها إدارة المرفأ، ما يجعله، بحسب القيّمين على عمله، قاب قوسين من التوقف عن العمل كلّياً، بعد اتخاذ القرار بتدميره وإفلاسه، رغم أنه مرفق عام تذهب أمواله الى الدولة. فالمادة 37 من قانون الموازنة واضحة بإلزام إدارة المرفأ بتحويل إيراداتها الى خزينة الدولة بصورة دورية (كل اثنين وخميس)، ما عدا الرواتب ومصاريف أخرى. ولا يحصل ذلك إلا باقتراح من الإدارة وموافقة من وزيرَي الأشغال العامة والنقل والمالية. ما يعني أن الأموال المحجوزة هي أموال الدولة، ووفق المادة 860 من أصول المحاكمات المدنية، لا يجوز الحجز على هذه الأموال ويعتبر القرار غير قابل للتنفيذ. لكن ثمة قاضية ارتأت «إصدار حكم من دون أخذ هذا الأمر في الاعتبار ولا مدى الضرر الذي سيلحق بمرفق عام، ومن دون أن يكون قد صدر التقرير النهائي في التحقيق الأساسي في جريمة المرفأ لتوزيع المسؤوليات».

الدولة ساكتة
وما يثير الريبة أكثر هو طريقة تعامل الدولة بأكملها مع ما يحصل، وهو ما يصعب فصله عن الرغبة الدفينة في خصخصة مرافق الدولة وبيع أصولها ومن ضمنها مرفأ بيروت. إذ إن القرار الأول الصادر في كانون الأول 2020 لم يحرّك أي مسؤول ولا إدارة المرفأ التي تتذرّع بأن خروج معظم محاميها الى التقاعد تسبّب في حالة ضياع. وقد استغل المدّعون هذا الإهمال المتعمّد للانقضاض مجدداً على مداخيل المرفأ ومصادرتها، مع الحديث عن نية برفع أكثر من 700 دعوى لمصلحة المتضررين.
المدير العام لإدارة واستثمار مرفأ بيروت باسم القيسي خارج السمع مع انتهاء ولايته وتعيين خلف له منذ ثلاثة أيام، علماً بأنه لم يحرك ساكناً تجاه ما حصل عندما كان في منصبه. الحديث مع المدير العام الجديد عمر عيتاني مقتضب، إذ إنه لا يزال يقرأ بريد سلفه. وزير الأشغال العامة والنقل ميشال نجار يقول إن مبدأ فصل السلطات لا يتيح له التدخل في قرارات السلطة القضائية، وإنه سيسعى الى التعاون مع المدير العام الجديد للوصول الى حلّ ما.
أحد المسؤولين في محطة الحاويات أشار الى أن ما يجري يعيد المرفأ الى «القرن الثامن عشر». إذ إن القسم الأكبر من العائدات يذهب الى «صندوق التعويضات» في المحكمة، وما يبقى من واردات لا يكفي لسدّ المصاريف التشغيلية من شراء المازوت الى قطع الغيار والصيانة، وخصوصاً أن المرفأ لا يزال يتقاضى الرسوم وفق سعر الصرف الرسمي للدولار (1500 ليرة). لذلك، فإن أي آلية تصاب بعطل تتوقف عن العمل لعدم القدرة على إصلاحها. والواقع اليوم أنه من أصل 16 رافعة، لا تزال 6 فقط تعمل، علماً بأن أعطالاً طالت اثنتين من الرافعات الست في الشهرين الماضيين. يضاف الى ما سبق، انتهاء عقد الشركة المكلفة إدارة محطة الحاويات والتي باتت تنتظر اللحظة المؤاتية للتحرر من عملها، بعدما بات عبئاً يرتب عليها خسائر. ما يعني، بحسب أحد المسؤولين، أن محطة الحاويات التي نجت من انفجار النيترات، تعاقب اليوم على استمراريتها في استقبال السفن وتسييرها لحركة التصدير الى الخليج العربي، ولا سيما الإمارات والكويت وقطر والأردن، بقطع العائدات عنها وتعطيلها بأمر من القضاء اللبناني، وبـ«همّة» نقيب المحامين الذي حاولت «الأخبار» التواصل معه، لكنه لم يجب كعادته.



«قتل من دون قواص»
حذّر رئيس غرفة الملاحة الدولية إيلي زخور من أن «المشكلة الكبيرة المقبلة هي في تعطّل محطة الحاويات كلياً وعدم إيجاد السفن مكاناً ترسو فيه وتنطلق منه. فبعد انسداد المنافذ البرية، «كان البحر هو منقذ الصناعيين والمزارعين عبر إيصال بضائعهم من دون أي مشكلة الى الوجهات المحدّدة. ولو لم يتم التعويض عليهم بهذا الحلّ لحصلت الكارثة» التي ينبّه زخور الى «أننا سنصل إليها قريبا جدّاً».
من جهته، قال رئيس نقابة موظفي وعمال مرفأ بيروت، رئيس الاتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، إن المرفأ «ينحدر من سيئ إلى أسوأ». وأشار الى أن الموظفين وبعض المتعهّدين لا يزالون يتقاضون جزءاً من أتعابهم من المخزون الموجود في المرفأ الى حين معالجة الأمر مع المدير العام الجديد. أما في ما خص الرافعات، «فيتم اليوم فكّ قطع غيار من بعض الرافعات لاستعمالها في أخرى الى حين استنزافها كلها». يجري كل ذلك «من دون مبادرة أحد الى المعالجة. لا بل ثمة إهمال متعمد وكأن هناك مؤامرة على لبنان لتدميره بالكامل وتدمير مرفئه الذي كان الأنشط في الشرق الأوسط». «مشروع قتل من دون قواص»، بحسب الأسمر، «إما أقتلك أو أُهجّرك». في كلتا الحالتين، ثمة حالة تستدعي إطلاق جرس الإنذار والتحرّك لإنقاذ المرفأ مما يحاك له محلياً وخارجياً.