توخّى العرض الصعب الذي اقترحه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إبدال حكومة الاختصاصيين غير الحزبيين التي يتعثر تأليفها، بأخرى تمثل الأقطاب السياسيين، القادرين على الربط والحل، واتخاذ القرار دونما حاجة إلى مَن يمثلونهم أو ينتدبونهم حزبيين أو اختصاصيين. عنى اختصار المسافة للوصول إلى حكومة انتخابات تفترض أن لا يترأسها الرئيس المكلف الحالي سعد الحريري، ولا يقود تأليفها إلى ما أصاب حكومة تعجز عن إبصار النور.فُهِم أيضاً من طرح البطريرك حكومة الأقطاب، أن المهمة المنوطة بها هي في الأشخاص المفترض أن يكونوا فيها أقدر على إخراج البلاد من الانهيار الشامل الوشيك ما داموا هم القادةَ النافذين. من دونهم يفشل الاختصاصيون المعلومون أو المجهولون في حل مشكلة تسبّب فيها الكبار أولئك، ولا يسع الصغار الجدد هؤلاء انتشال اللبنانيين من دونهم. مع أن اقتراح الراعي وجيه ومبرّر، بيدَ أن المشكلة لم تعد، بعد أكثر من سبعة أشهر على التكليف، محصورة بحقائب ووزراء وحصص، ولا بالوزيرين المسيحيين الأخيرين في حكومة 24، إذا صح أنهما علة العلل. بل تكمن في المرجعيتين المعنيتين بتأليف الحكومة وتوقيع مراسيمها، رئيس الجمهورية والرئيس المكلف. أحدُهما لم يُطِق الآخر، ولا يسعه تحمّله إلى جانبه في حكم الثلث الثالث من ولاية عون. يبغض أحدُهما الآخر، ويتبادلان مباشرة وبالواسطة شتى النعوت والإهانات والاتهامات. أحدُهما يطعن في الشرعية التي يمثّلها الآخر، ويتدرّجان في طرح الشروط التعجيزية واحداً تلو آخر. الانطباع السائد أن الرئيسين كليهما لا يريدان الحكومة الآن، وكلّ منهما لا يريد الآخر ولا يتصوّره حتى على رأسها، أو على رأس طاولة مجلس الوزراء. بذلك، فإن حكومة يتوافق عليها رئيس الجمهورية والرئيس المكلف وتصدر مراسيمها - إن صدرت - تعني أن مجلس الوزراء المقبل سيقعد على برميل بارود يوماً بعد آخر.
عندما طرح البطريرك من قصر بعبدا الأربعاء الفائت فكرة حكومة أقطاب، حضرت إلى ذهنه للفور التجربة المهمة والاستثنائية في ثانية حكومات عهد الرئيس فؤاد شهاب عام 1958، هي الحكومة الرباعية التي قاد نجاح تجربتها إلى تكرارها في عهد خلفه الرئيس شارل حلو عام 1968، بثلاثة من الوزراء الأربعة إياهم لكن برئيس مختلف. ترأّس الحكومة الرباعية الأولى الرئيس رشيد كرامي وضمّت إليه الرئيس حسين العويني والشيخ بيار الجميل والعميد ريمون إده. في الحكومة الرباعية الثانية بعد عشر سنوات، ترأّسها الرئيس عبدالله اليافي وضمّت إليه الوزراء أنفسهم، العويني والجميّل وإده. في الحكومتين كلتيهما مارونيان وسُنيان فقط.
بالكاد أقسم الرئيس الجديد حينذاك اليمين الدستورية لأسابيع قليلة، عندما اقترح عليه إده حكومة رباعية بدلاً من حكومة ثمانية وزراء كانت صدرت مراسيمها، بينهم سياسيون واختصاصيون، لم ينخرط مِن بينهم في «ثورة 1958» سوى رئيسها كرامي، فانفجرت في وجهه «الثورة المضادة». لم يرَ شهاب بداً لإمرار حكومة من مارونيين وسنيين فقط، سوى أن يلزم رئيس «المكتب الثاني» (الاستخبارات العسكرية) المقدم أنطون سعد منزل الرئيس صبري حمادة - ولم يكن رئيساً للبرلمان - ليلَ نهارَ كي يتمكن من تبليعه حكومة ليس فيها وزير شيعي. لم تكن المشكلة أقل وطأة مع الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، أبرز قادة «ثورة 1958» - شأن حمادة في البقاع - لإقناعه بأن لا درزي في الحكومة الرباعية. حينذاك، برّر شهاب لهما أنها حكومة ترمي إلى إخراج البلاد من تداعيات الحرب الأهلية الصغيرة.
بذلك لم تكن الحكومة الرباعية حكومة الأقطاب، وإن وُزِّر فيها أقطاب واستُبعد آخرون، كونها اكتفت باثنتين من الطوائف السبع لمهمة محددة، لا تلبث أن تنتهي بعد سنة تماماً، من تشرين الأول 1958 إلى تشرين الأول 1959، مع استقالة إده وتوسيعها بأن ضمّت خمسة وزراء جددٍ. أنهت ذيول الحرب، وبنت الدولة اللبنانية التي تلفظ أنفاسها في هذه الأيام.
حكومة 1958 بنت الدولة اللبنانية التي تلفظ أنفاسها


واقع الأمر أن حكومة الأقطاب، بما عناه لمهماتها البطريرك الماروني، ليست حكومة 1958 ولا حتماً حكومة 1968. بل هي تلك التي يتمثّل فيها الجميع، أو مَن يتفقون على أن يمثلوهم، لكن على مستوى الأقطاب، لا الصفوف الدنيا ولا الصفوف الخلفية. تجربتان اثنتان فقط لحكومة أقطاب، ربما يكون الراعي أراد استعادة مواصفاتها، كان عرفهما لبنان في حقبة ما قبل اتفاق الطائف. بعد هذا الاتفاق، في ظل الحقبة السورية، لم تعد حكومات الاتحاد الوطني الوفيرة سوى جمع الميليشيات إلى طاولة مجلس الوزراء لتقاسم الدولة. بعد خروج السوريين عام 2005 ظلّت الحكومات نفسها تتعاقب، بمَن تبقّى من ذلك الركب مع مَن التحق بهم، فإذا الوظيفة نفسها. لم تكن أي منها حكومة أقطاب، عندما كان فيها أقطاب، بل حكومات الوصول بالبلاد إلى ما أضحت عليه اليوم.
حكومتا الأقطاب - لا أقطاب - اثنتان فقط عُرفتا، واستطاعتا أن تضطلعا بهذا الدور بعض الوقت قبل أن تسقط التجربة هذه بالانقسام: الأولى، ترأسها كرامي في عز «حرب السنتين» ما بين الأول من تموز 1975 و9 كانون الأول 1976، آخر حكومات عهد الرئيس سليمان فرنجية. من ستة وزراء (الرئيسان كميل شمعون وعادل عسيران والوزراء مجيد ارسلان وفيليب تقلا وغسان تويني). دعمتها دمشق في مطلع مرحلة وساطتها السياسية في لبنان، وتفادى تأليفها انضمام أكثر الأعداء ضراوةً في الحرب تلك، ككمال جنبلاط وبيار الجميّل، بأن تمثّل جنبلاط بكرامي والجميّل بشمعون، بينما الوزراء الآخرون لم ينخرطوا في الحرب. لعل واحداً من المشاهد التي لا تُنسى حينذاك، إبان مشاورات التأليف، مصالحة تاريخية استثنائية في قصر بعبدا بين شمعون وجنبلاط، الغائرين في عداء سياسي وشخصي بدأ عام 1952 ولم يكن قد انتهى.
في حكومة الستة، تمثّلت الطوائف الأكبر - باستثناء الأرمن - بأقطابها الأُوَل، فلم تُستبعد أي منها، ولم يصر إلى التشكيك في شرعية أي من هؤلاء ووزنه التمثيلي، ولم يعاند أحد في الإصرار على أن يكون داخلها. رضي جنبلاط بأرسلان ممثلاً للدروز وكان في المقلب الآخر منه في الحرب، والرئيسان صبري حمادة وكامل الأسعد بعسيران ممثلاً للشيعة. كان تقلا أقدم ممثلي طائفته، وتويني أثمن الأرثوذكسيين. مع ذلك، لم تعش وحدة حكومة الأقطاب تلك في ظل تواصل جولات الحرب. خرج منها تقلا أولاً بالسفر إلى البرازيل نهائياً، ثم اختلف فرنجية وشمعون مع كرامي الذي قاطع مجلس الوزراء، فانتقلت حقائبه ومنصبه إلى شمعون في سابقة غير مألوفة، أن يمسي رئيس حكومة بالوكالة. رغم تفككها صمدت إلى ما بعد انتخاب الرئيس الياس سركيس.
ثانية حكومات الأقطاب كانت ثانية حكومات عهد الرئيس أمين الجميّل، ما بين 30 نيسان 1984 و22 أيلول 1988- مع أن مواصفاتها كحكومة أقطاب كانت أفضل من سابقة حكومة 1975 تعبيراً عن موازين القوى في البلاد، إلا أنها مثّلت نوعاً فريداً من الحكومات: عشرية، أكثر من نصف وزرائها معارضون، بينما بَانَ الموالون أقلية. ترأسها كرامي، وضمّت شمعون والجميّل وعسيران والرئيس سليم الحص وجوزف سكاف وعبدالله الراسي وفيكتور قصير، وللمرة الأولى وزيرين، رئيس حركة أمل نبيه برّي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. عمّرت أكثر من أربع سنوات، التأمت خلالها سنة ونصف سنة، فيما الباقي في قطيعة كاملة بين وزراء المعارضة الستة ورئيس الجمهورية. من فوق رؤوسهم صارت تتناقل المراسيم الجوّالة بسبب منع سوريا انعقاد مجلس الوزراء منذ ما بعد كانون الثاني 1986.
لم تشكُ حكومتا الأقطاب هاتان من تعذّر تأليفهما، ولا الخلاف على رئيسيهما، ولا من تسليم خصوم رئيس الجمهورية بوجوده على رأس الطاولة، مقدار ما شكتا من واقع الحرب اللبنانية ودور دمشق حينذاك، ناهيك بجولات القتال التي كانت تحول دونهما. لم تكن مشكلتا الحكومتين واحدة، وإن أظهر وجود الأقطاب فيهما إلى حد كبير ضماناً بحد أدنى من تفادي الانزلاق. بيد أن وطأة التدخلات الخارجية أضعفتهما.
ما قد يُحزن في عرض البطريرك أنه لن يعثر الآن على أقطاب يستحقون الصفة أولاً، يُعوَّل عليهم ثانياً، غير مرتكبين وغير آثمين يمثلون ملاذاً آمناً ثالثاً.