منذ أواخر التسعينيات، يتدهور قطاع النقل البري في لبنان من سيّئ إلى أسوأ، تحت مرأى الحكومات المتعاقبة التي لم يبذل أي منها جهداً كافياً لتحسينه والاستثمار فيه، من أجل تأمين النقل السريع للمواطنين، فاكتفت بـ«إغراق» السوق باللوحات العمومية تاركةً الناس يتدبرون أمورهم بسياراتهم الخاصة... إن وُجدت.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
اليوم، مع تفاقم أزمة المحروقات بفعل الانهيار الاقتصادي، بات قطاع النقل الحضري، المُترهّل أساساً، مُهدّداً بـ «التفكك»، على ما يقول المهندس المتخصص في قطاع النقل رامي سمعان لـ «الأخبار».
وفيما يجري الحديث عن «استغلال التحديات» التي تعصف بالقطاع للتوجه نحو «النقل السلس» (تعزيز المشي واستخدام الدراجات الهوائية وغيرهما)، الصديق للبيئة والكفيل بتخفيف الازدحام الخانق، يؤكد سمعان أن النقل السلس «لن يمنع الفوضى العارمة التي ستحل من جراء تفكك النقل البري ما لم يتم الاتفاق على حلّ سياسي جذري يستثمر في قطاع النقل المشترك ويؤمن الثقة لمموّليه». ويُضيف: «هذا الاستثمار، إن حصل، سيستغرق سنوات، فيما المواطنون متروكون لمواجهة مصيرهم».
يلفت سمعان الى أن «النقل السلس» كفيل بتخفيف الأزمة بشكل محدود، «لكن لا يعوَّل عليه لسببين؛ الأول يتعلق بتنظيم هذا النقل، وهو أمر غير متاح في لبنان حالياً، من أرصفة مخصصة للمشاة تنكفئ عنها المحال وصولاً إلى خطوط محمية على الطرقات مخصّصة للدراجات الهوائية»، والسبب الثاني الذي يتعلّق بعدم قدرة «النقل السلس» على تلبية احتياجات الجميع، «فهناك أشخاص لا يرغبون في قيادة دراجة هوائية وآخرون لا يمكنهم ذلك».
الحديث عن «النقل السلس» كخيار بديل يأتي لما يُمثّله من خطوة مهمة للتخفيف من حدة الاختناقات المرورية، كما أن الترويج لاستخدام الدراجات الهوائية تمثّلاً بنماذج أوروبية، لا يأتي من منطلق بيئي فقط، بل من منطلق صحي أيضاً (بحسب المجلة الطبية البريطانية BMJ، فإنّ الناس الذين يذهبون إلى عملهم يومياً مستقلين الدراجات الهوائية أقل عرضة للإصابة بمرض السرطان بمعدل 45% وأقل بـ46% للإصابة بأمراض القلب والشرايين ممن يستقلون السيارات).
دعم البنزين للسائقين يفتح المجال أمام تنشيط السوق السوداء للمحروقات


ولكن، ما هي الخيارات المطروحة في ظل عدم القدرة على التعويل على هذا البديل؟
يستبشر رئيس اتحادات نقابات قطاع النقل البري في لبنان بسام طليس بالاتفاق الذي توصل إليه مع حكومة تصريف الأعمال على دعم قطاع النقل بعدد من صفائح البنزين والمازوت بأسعار مدعومة؛ إذ إن هذا الحل «يسند السائق من دون أن يحمّل المواطن العبء المادي». ومع أن العبرة في التنفيذ، يؤكد طليس أن الحكومة «مجبرة على تنفيذ مشروع الدعم، وإلا فستجني على نفسها، فالناس لن تسكت عندها».
إلا أن لسمعان رأياً مغايراً في ما يخص دعم المحروقات، «إذا دعمت»، كما يقول. ويسأل: «من يضمن فعالية عملية الدعم إذا لم تواكبها منظومة سياسة تشرف عليها؟»، بمعنى أن السائق قد يلجأ إلى بيع البنزين المدعوم في السوق السوداء أو تهريبه في غياب الرقابة الفعلية، «فيقتات من هذه التجارة ويكفّ عن العمل، وهكذا نكون قد دعمنا السائق لا النقل بحد ذاته».
حتى الآن، لا يبدو أن في حوزة الحكومة خطة استراتيجية تلحظ مصير قطاع النقل البري وتخفف من «الهلع» الذي ينتاب كثيرين من المُقيمين ممّن بات الوقوف في طوابير المحطات «روتينهم» اليومي. جزء كبير من هؤلاء، ورغم شكواهم من هذا الذلّ، يعيشون أيضاً هاجس رفع الدعم، خصوصاً بعد تصريح طليس قبل أسابيع عن إمكان وصول تسعيرة «السرفيس» إلى 14 ألف ليرة! ترايسي (27 عاماً) التي تعمل محاسبة أجرت حساباتها: «28 ألفاً بدل نقل يومياً يعني 672 ألفاً في الشهر. يبقى من راتبي البالغ مليون ليرة 328 ألفاً». تستعد الشابة لليوم الذي سيرفع فيه الدعم عن المحروقات لتكون أمام خيارين: إما أن يوافق مديرها على الاستمرار في التعاون عن بعد كما خلال الحجر المنزلي، أو تقديم استقالتها والبحث عن عمل آخر قريب من منزلها. والأمر نفسه ينسحب على جلال نعنوع (30 عاماً) الذي يتوجه إلى عمله في إحدى المؤسسات الإعلامية بسيارته الخاصة «حالياً»، أما بعد رفع الدعم عن المحروقات «فمعش توفّي، لأن راتبي لم يعد يكفي لتصليح السيارة». ولأن المشي إلى عمله «مستحيل» لكونه بعيداً عن مكان سكنه، يفكر في اقتناء دراجة هوائية تقلّه من عمله واليه. أما سارة (21 عاماً) فركنت سيارتها واتكلت على قدميها للتنقل إلى أي مكان ضمن بيروت، بعد أن «ملّت» من الانقطاع المستمر لمادة البنزين والوقوف في طوابير أمام محطات البنزين للتعبئة.
ولأن حل أزمة النقل في لبنان مرهون بالمنظومة السياسية ككل، وفق الاختصاصيين، شأنها شأن أزمة الكهرباء والمياه، وفي غياب السياسات الفعالة، ليس مستبعداً أن يصير التنقل في لبنان مقتصراً على من استطاع إليه سبيلا.