«ما بقا يدقّ تلفوني»، يقول أحد الوزراء السابقين وهو يُخبر كيف كان يتلقى في اليوم الواحد عشرات الاتصالات من مُتعهدين يُريدون «تزفيت طريق أو حفر بئر أو مدّ كابلات»، فيما باتوا اليوم «يهربون» من مشاريع الدولة. وزارة الأشغال العامة والنقل - بصفتها «المَنجم» الرئيسي للمُتعهدين، تكاد تخلو من حاملي الطلبات. لا ينطبق ذلك على «شريكها» الآخر في التعهدات، مجلس الإنماء والإعمار، الذي لا يتوقّف العمل لديه، لكون المشاريع التي يُنفّذها مُموّلة من صناديق ودول أجنبية، وبالتالي تُدفع بالدولار. وهنا لُبّ المشكلة: انهيار سعر العملة الوطنية، وارتفاع الدولار في السوق السوداء إلى أكثر من 12 ألف ليرة، دفع بالمُتعهدين إلى إعادة حسابات الربح والخسارة لديهم. الطرقات اللبنانية تحوّلت فعلياً إلى «خنادق». بعض الحُفر يعود أقلّه إلى شتاء 2019، من دون أن يجد من «يُسكّجه».
80 مناقصة في سنة لم تُلزّم لعدم اشتراك أي عارض فيها (أرشيف)

خدمات الاتصالات تتردّى. النفايات تتراكم في الأحياء الداخلية وعلى الطرقات. قد تكون الكلفة زادت على مُتعهدين، ولكن هناك أعمالٌ تُستخدم فيها مواد أولية محلية الصنع ليست بحاجة إلى مليارات الدولارات لتُلزّم، خاصة أنّ أجور العمّال لم تُرفع، وقد استفاد أصحاب الشركات من أسعار المحروقات المدعومة. والدليل قبول شركة «رشيد الخازن» طلب وزارة الأشغال ردم الحفر على طول الأوتوستراد من نهر إبراهيم حتى نهر الكلب مجاناً، وبعدها بأسابيع «تبرّعت» مؤسسة حليم حواط (أي النائب زياد حواط) بتأهيل طريقٍ في جبيل، من غير أن يظهر بعد من هم «زفّاتو» بقية الأقضية.
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
صحيحٌ أنّ أزمة النقد، التي تسبّبت فيها الحكومات المتعاقبة ومصرف لبنان، فرضت إيقاعها على الوضع، ولكن بعد قرابة سنتين على الانهيار لم تبحث الحكومة عن حلول بديلة. قبل ذلك، ولسنوات، سادت عقلية تسويق التقشّف في النفقات الاستثمارية كأداة للحدّ من العجز. فبين عامَي 1992 و2017، «بلغ متوسّط الإنفاق الاستثماري العامّ نحو 600 مليون دولار سنوياً، ما يعني أن الدولة لم تنفق سوى 150 دولاراً على الفرد سنوياً في مجالات تجهيز البنية التحتية والخدمات العامّة. وأنجز مجلس الإنماء والإعمار مشاريع بقيمة 10.3 مليارات دولار، وهناك مشاريع لا تزال قيد التنفيذ بقيمة 4.5 مليارات دولار» (راجع «الأخبار» عدد 24 كانون الأول 2018). أيام «البحبوحة»، وكان الإنفاق الاستثماري بهذا السوء، فكيف الحال بعد انهيار الليرة والأزمة الاقتصادية والمالية؟
80 مناقصة - بين كانون الثاني 2020 وآذار 2021 - لم تستطِع إدارة المناقصات تلزيمها لعدم اشتراك أي عارض فيها، من دون احتساب المناقصات التي تقدّم إليها عارض وحيد، ما يعني أيضاً طلب إعادتها... حتّى الورقة البيضاء في إدارات الدولة «انقطعت»، لأنّ أحداً من التجّار لا يقبل بيعها بالليرة. ومن هذا المستوى، تتدرّج «مقاطعة» المُتعهدين للاستثمارات العامة، فتطال كلّ مفاصل الدولة: شراء بنزين ومازوت، بيع قطع غيار، جمع النفايات ونقلها ومعالجتها، أدوية وشتول زراعية، قرطاسية، تنظيف وتأهيل شبكات تصريف مياه الأمطار والمجاري الصحية، صيانة أجهزة، تأهيل الطرقات، حفر آبار، ترميم مبانٍ، تأهيل مرفأ وصيانته.
«لزّمنا أشغال إزالة الانهيار قرب نفق شكّا بـ14 مليار ليرة، أي قرابة 9 ملايين و200 ألف دولار بحسب سعر الصرف القديم، أصبحت تساوي مليوناً و100 ألف دولار وفق سعر الصرف في السوق. المُتعهدون يطلبون بفسخ العقود»، يقول وزير الأشغال العامة والنقل ميشال نجّار. تكرّرت هذه المشكلة، فتوصّل ديوان المحاسبة إلى صيغةٍ تسمح بفسخ العقود فقط في حال لم يكن قد صدر أمر مُباشر بالتنفيذ، «أما من بدأ التنفيذ، فيجب عليه أن يُكمل الأعمال، ولكنّهم قد توقفوا ونحن لا نملك آلية لإجبارهم على العمل. سعر الصرف أوقف كلّ المشاريع. الدنيا خربانة والوضع على شفير الانهيار». ما الحلّ؟ يُجيب نجّار بأنّ «الخطة البديلة الوحيدة هي أن تتألف حكومة وتتمكّن من الحصول على التمويل».
يجري البحث عن اعتماد سعر صرف مع سُلّم مُتحرّك للمُتعهدين


يرفض المُتعهدون إنجاز أعمالٍ لصالح القطاع العام، لأنّ الفواتير تُنظّم وفق سعر 1507 ليرات لكلّ دولار، في حين تخطّى سعر صرف الدولار في السوق السوداء الـ 12 ألف ليرة، وبالتالي لم تعُد المشاريع بالنسبة إليهم «ربّيحة». انقلب المُتعهدون على الدولة اللبنانية، بعد أن كانت لسنوات بقرتهم الحلوب، يتسابق أكثريتهم للنهل من مشاريعها، وتحديداً المحظيين بينهم الذين كانت تُفَصَّل المناقصات على قياس شركاتهم، فيُراكمون ثروات خاصة من المال العام. يُخبر أحد المسؤولين في إدارة عامة أنّ «ظروف المناقصات باتت أصعب من السابق، مع بروز عائقَين أمام المُتعهدين؛ أولاً، تواجه المشاريع الصغيرة مُشكلة عدم إصدار المصارف ضمانة مصرفية لها، في حين أنّ الدولة غير قادرة على توفير الاعتماد للمشاريع الكبيرة، وأصلاً خفتت حماسة المُتعهدين بعد أن توقّفت الحكومة عن دفع نفقاتها السابقة». المشكلة الثانية هي السعر، «في بداية الأزمة، حاول مُتعهدون نفخ أسعارهم كثيراً لتعويض الفارق في أسعار الصرف، ولكنّ نسبة هؤلاء تدّنت كثيراً بسبب تزايد المخاطر السوقية الأخرى التي يواجهونها».
يقول رئيس نقابة مقاولي الأشغال العامة والبناء اللبنانية، مارون حلو، إنّه منذ سنوات «قُلّصت موازنات الوزارات واقتصرت أعمالها على الأمور التشغيلية لا الاستثمارية. قسراً، توقّفت مشاريع القطاع العام، «وكان يُنفّذ ما له ضرورة حصراً، فأخذت طابعاً سياسياً بامتياز، خُصّصت لنواب وسياسيين أرادوا خدمة مناطقهم». ومن جهة مجلس الإنماء والإعمار الذي يتلقّى مُعظم تمويله من الخارج (قروض بالدرجة الأولى)، «تأثّرت موازنات الدول من جرّاء أزمة كورونا، ما دفعها إلى تخفيف تمويلها، يُضاف إلى انتشار كورونا الموقف السياسي من عهد ميشال عون وتحالفه مع حزب الله، لتُقاطع الدول الخليجية والغربية لبنان مادياً». يُضيف حلو إلى العجز لدى الدولة، الأزمة التي يمر بها القطاع الخاص، فـ«هو في حالة تريث لأنّه لم يُحدّد بعد كيف سيواجه المرحلة الجديدة». انطلاقاً من هنا، يتحدّث حلو عن اتصال بينه وبين رئيس لجنة الأشغال النيابية نزيه نجم، الذي «أبلغنا نيّته الإعداد لاجتماع نبحث في خلاله الوضع، لأنّه لا يجوز أن يبقى البلد من دون تعهدات وأشغال. وقد يتم تحديد سعر صرف مع سُلّم مُتحرّك».
التقنين في النفقات الاستثمارية آخر 15 سنة، «أمر خطير وله انعكاس سلبي على النمو»، يقول الخبير الاقتصادي سامي عطا الله، ذاكراً أنّه مقارنةً مع بلدان تُشبه لبنان «كنا نُخصّص 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه المشاريع، مقابل 5% في تلك البلدان». منذ التسعينيات، عُمّمت «ثقافة» الاستدانة للاستثمار، «فقرّرت الحكومات أن تقترض من الدول المانحة، فيما هي خصّصت مواردها لنفقات الزبائنية السياسية وتمويل خدمة الدين». كان بعض المستشارين والمسؤولين «يتباهون بقدرتنا على الحصول على قرض بـ1% فائدة، مُتغافلين عن تمويل النفقات الاستثمارية من الضرائب. لو حسّنّا التحصيل الضريبي قبل فرض ضرائب جديدة، لكنّا جمعنا كلّ سنة 1.2 مليار دولار، يعني 12 مليار دولار في عشر سنوات، أي كلفة مؤتمر سيدر»، يُضيف عطا الله. حالياً، لم يعد مُمكناً الاكتفاء بهذه الخطوات، فـ«العاملون في القطاع الخاص يرفضون تعهّد مشاريع، بعضهم بين بعض، إذا لم تُدفع بالدولار أو وفق سعر السوق، فكيف مع مشاريع للقطاع العام؟». يعتقد عطا الله «أنّنا بحاجة إلى تأمين استقرار كلّي ووضع برنامج مبنيّ على الثقة، يترافق مع إجراءات جريئة وواضحة».
ليس لبنان الدولة الوحيدة التي حصلت فيها أزمة نقدية وبلغ التضخم معدّلات عالية، «في دول مثل الأرجنتين وتركيا واجهت انهيار العملة وتضخماً وفي الوقت نفسه نمواً، لأنّ المصارف لا تتوقّف عن الإقراض ولو بفائدة عالية»، بحسب أحد أساتذة الاقتصاد. المشكلة (الإيجابية) في لبنان أنّ كلّ المنظومة انهارت، «فيما يبقى الحلّ بأن يخلق المصرف المركزي اعتمادات جديدة للدورة الاقتصادية، ويبدأ جدياً سياسة فكّ ارتباط الليرة بالدولار. ولكن هذا الخيار بحاجةٍ إلى تحولات بنيوية في النظام الاقتصادي».



300 % ارتفعت قيمة مشاريع «الفريش»
في دراسة أجراها منير محملات وسامي عطا الله ووسيم مكتبي صادرة في شباط 2021، تبيّن أنّ 36% من المشاريع الاستثمارية بين الـ2008 والـ2018 أتى تمويله من صناديق ودول عربية، و20% منها أتى تمويلها من المانحين الأوروبيين، مقابل 44% من المشاريع أتت بتمويل محلّي. وعام 2019، وافق مجلس الوزراء على اقتراح مجلس الإنماء والإعمار لتوزيع مبلغ الـ165 مليون دولار من اتفاقية القرض مع البنك الدولي «لمشروع الطرقات والعمالة»، وقد احتفظ «الإنماء والإعمار» لنفسه - بالتعاون مع البنك الدولي - بتوزيع الاعتمادات على المُتعهدين. المُستغرب كان أن يُحدّد مجلس الإنماء مبلغ 12 مليون دولار «تعويضات ناتجة عن تقلبات الأسعار لصالح المُتعهدين»، رغم أنّ قيمة الكشوفات تُدفع بالدولار! وبحسب أحد المديرين العامين «ارتفعت القيمة الفعلية للمشاريع التي تُدفع بالدولار 300%».
يقول وزير الأشغال العامة والنقل، ميشال نجّار، إنّ هذه المشاريع لُزّمت وسيبدأ العمل بها تباعاً، «ولا مُشكلة فيها مع المُتعهدين، لأنّ أتعابهم تُدفع بالدولار، ولكن نسبة هذه المشاريع ليست كبيرة». وفي الإطار نفسه، يُشير نقيب المقاولين مارون حلو إلى «تلزيم ترميم القاعدة البحرية للجيش اللبناني بتمويل ألماني، والفرنسيون تعهّدوا بإنشاء ثكنة في جنوب لبنان، والولايات المتحدة الأميركية عبر الجمعيات غير الحكومية والـUSaid تُنفّذ مشاريع. والمتعهدون يسعون للفوز بهذه المشاريع، لأنّ الأموال تُدفع بالدولار الأميركي».