تجاوزت طرابلس قطوعاً كبيراً مساء أول من أمس، بعدما نجح الجيش اللبناني والقوى الأمنية في ضبط الأوضاع ومنع خروجها عن السيطرة، بسبب توتّر شديد ساد المدينة في الأيّام الأخيرة، وتحديداً عشية الانتخابات الرئاسية السّورية، على خلفية إعلان أهالي محلة جبل محسن وسوريين مقيمين في المدينة نيّتهم الاحتفال بفوز الرئيس السّوري بشّار الأسد بالرئاسة.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
فخلال السّاعات الـ48 التي سبقت الاستحقاق الرئاسي السّوري، رزحت طرابلس تحت عبء ثقيل من الشائعات والمخاوف من احتمال عودة التوتّر الأمني إلى المدينة مجدّداً، نتيجة قلق أن يرافق الاحتفالات التي بدأت الاستعدادات لها مسبقاً، أجواء من الاستفزاز ستُقابَل بردود فعل، ما سيؤدي إلى استعادة المدينة أجواء جولات العنف الـ22 السابقة، التي وضعت خطّة أمنية في 1 نيسان 2014 حدّاً لها.
وزاد من منسوب القلق أنّ هذه الشائعات والمخاوف ترافقت مع حوادث أمنية متفرّقة طيلة الأيّام السابقة، تمثلت في رمي مجهولين قنابل يدوية وإطلاق قذائف إنيرغا على محاور الاشتباك التقليدية في المدينة، توزّعت بين أحياء شارع سوريا في باب التبّانة وساحة الأميركان في جبل محسن وساحة البقّار في القبة. كذلك أقدم مسلحون مجهولون على إطلاق النار في الهواء من سيارة أثناء مرورها على أوتوستراد التبّانة، بعدما كان الجيش اللبناني قد أزال دشمة اسمنتية وُضعت داخل أحد أحياء باب التبّانة المتاخمة لجبل محسن، وتوقيفه 5 أشخاص خلال عمليات دهم في باب التبّانة ومصادرة أسلحة.
هذه الأجواء دفعت الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي إلى اتخاذ عدّة إجراءات أمنية استباقية مشدّدة في محلة جبل محسن ومحيطه في باب التبّانة والقبّة والمنكوبين وحارة البرانية، من دوريات وحواجز وانتشار أمني وإغلاق الطرقات المتداخلة كافة بين هذه المناطق، بشكل أعاد إلى الأذهان الإجراءات الأمنية الصّارمة التي اتُّخذت قبل 7 سنوات إبّان تنفيذ الخطة الأمنية في المدينة، ومنعوا بعد إعلان النتائج والاحتفال بالفوز سيّارات ترفع الأعلام السورية وصور الأسد من الخروج من المنطقة.
مصدر أمني أوضح لـ«الأخبار» أنّ «هذه الإجراءات تهدف إلى منع حصول أيّ توتر أمني، وضبط الأوضاع ومنعها من التفلّت»، مشدّداً على أنّه «جرى إبلاغ جميع من يعنيهم الأمر بأنّه من غير المسموح حصول أي خرق أو توتّر أمني، وأنّ الردّ على من يقوم به سيكون قاسياً». وقد أوقف الجيش أول من أمس أحد المشتبه في قيامهم برمي قنبلة يدوية، اعترف، بحسب بيان المؤسسة العسكرية، بما يُنسب إليه.
لكنّ اللافت أنّ أجواء التوتّر التي رافقتها مخاوف ودعوات تحريض على وسائل التواصل الاجتماعي مؤخّراً، لم تظهر في طرابلس يوم الخميس الماضي، في 20 أيّار الجاري، عندما توجّه المئات من أبناء جبل محسن وسوريون مقيمون في المحلّة والمدينة، إلى السفارة السورية في بيروت للمشاركة في عملية الاقتراع في الانتخابات الرئاسية السورية، على عكس ما حصل حينها في جونيه وكسروان من اعتداءات على مواطنين سوريين كانوا في طريقهم إلى سفارة بلادهم، من قِبَل مناصرين لحزبَي القوّات اللبنانية والكتائب.
عاد مسلسل رمي القنابل إلى خط التماس التقليدي بين التبانة وجبل محسن


هذا الهدوء الذي شهدته طرابلس يومها، وتعاملها بصورة طبيعية من دون تشنّج مع استحقاق الانتخابات الرئاسية السورية، يبدو أنّه لم يرُق للبعض، من الذين اعتادوا أن يجعلوا المدينة دائماً «صندوق بريد» يرسلون عبره رسائلهم السياسية والأمنية المتشنّجة والمتفجّرة. فسرعان ما بدأت أجواء التوتّر والخوف تعود إلى المدينة، وسط دعوات تحريض على منصّات وسائل التواصل الاجتماعي زادت من منسوب القلق. وتزامن ذلك مع اجتماع عُقد في محلة القبّة، يوم الأحد الماضي، لفاعليات المنطقة ومشايخ وقادة محاور، دعوا فيه إلى «حصر السلاح بيد الجيش اللبناني وحده»، بعدما وجّهوا اتهامات إلى سرايا المقاومة بأنها «تقف خلف التوتر الأمني الأخير في المدينة»، ودعوتهم المواطنين إلى «ألا ينجرّوا وراء الفتنة، والتعالي فوق الاستفزاز المتعمّد لأبناء المدينة من قِبل قلّة».
هذه الدعوات إلى الحفاظ على الهدوء وعدم الاستفزاز صدرت عن أغلب الأفرقاء المعنيين، إذ شهدت الساعات التي سبقت صدور نتائج الانتخابات دعوات من فاعليات مناطق باب التبّانة والقبّة والمنكوبين وحارة البرانية وسواها إلى عدم الانجرار إلى الفتنة، قابلتها دعوات مماثلة في جبل محسن؛ إذ وجّه الأمين العام للحزب العربي الديمقراطي رفعت عيد، الموجود في سوريا، رسالة إلى أهالي طرابلس عبر صفحته على فيسبوك، طلب منهم أن «ينظروا إلى التقارب العربي - العربي الذي سينعكس إيجاباً على لبنان عموماً وعلى مناطقنا خصوصاً»، مؤكداً أنه «لن نُرجع عقارب الساعة إلى الوراء، وستكون طرابلس منارة للعيش المشترك في لبنان».
بدوره، أكّد معاون الأمين العام للحزب علي فضّة أنّ «من حقنا أن نحتفل بهذا الحدث، لكن ليس أن نجعل طرابلس تتوجس وتخاف»، مؤكّداً أنّه «لن يكون هذا اليوم كما أشاعوا وتمنّوا واستغله البعض، بل سيكون احتفالاً حضارياً يليق بالمناسبة». وشدّد على أنه «ليس مسموحاً إطلاق النار ابتهاجاً، وننسّق مع الأجهزة الأمنية لضبط الوضع، ولن نسمح للمصطادين في الماء العكر بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لأن أمن طرابلس واستقرارها من مسؤوليتنا جميعاً»، قبل أن يعود بعد انتهاء الاحتفال ليتوجه بالشّكر إلى أهالي جبل محسن «على الوعي والالتزام؛ فقد احتفلتم برقي، حيث لم يُسجّل أي خرق أمني»، وإلى «الجيش اللبناني واستخباراته وكلّ عين ساهرة على الأمن».
في المقابل، رأى عربي عكاوي، نجل مؤسّس المقاومة الشعبية الراحل في باب التبّانة، خليل عكاوي، أنّ «الخوف مفتعل ومضخّم وغير جدّي، لأنّه لا توجد تحضيرات على الأرض تشير إلى احتمال تجدّد جولات العنف، ولا تمويل ولا تحريض إلا على وسائل التواصل الاجتماعي، لكون الهمّ المعيشي وتأمين لقمة الخبز في الجانبين يشغلان الجميع، عدا عن أنّ الإجراءات الأمنية المشدّدة التي يقوم بها الجيش اللبناني قد تركت أجواء ارتياح واسعة، وهي قادرة على ضبط المندسّين والمتفلتين والطابور الخامس».
عكاوي الذي اعتبر أنّه «يوم ويمرّ»، سأل: «هناك أناس في طرابلس يؤيدون الرئيس السوري، ماذا نفعل معهم، هل يقتل بعضنا بعضاً حتى نكون مبسوطين؟»، وهو عاد وعلّق بعد مرور قطوع الاحتفال على خير قائلاً: «لو أن التيّارات السياسية أمّنت غطاء للقوى الأمنية مثلما حصل اليوم، لما حصلت أيّ جولة اشتباكات، وكنّا وفّرنا الكثير على المدينة وأهلها».
وسبق الاحتفال أيضاً مناشدة الشيخ نبيل رحيم في رسالة بثّها على وسائل التواصل الاجتماعي، «شباب طرابلس التحلّي بالحكمة وضبط النفس، وعدم الانجرار إلى مخططات أعداء المدينة عبر القلاقل والفتن، فلا نتيجة لها إلّا الخراب».