آن الأوان لإعادة النظر في فكرة توسيع الطرق الجبلية التي يصرّ البعض على إدراجها في خانة «الخدمات» و«الإنجازات»، بدل تبني أفكار أكثر حداثة وجدوى كالتنمية المتكاملة والمستدامة. فتاريخياً، لم تجنِ المناطق من توسيع الطرق سوى زيادة التشويه والعمران وضرب معالم الطبيعة البكر والتنوّع فيها. وادي الجماجم، في المتن، آخر الأمثلة على التشويه المجاني ما لم يتم التراجع عن مشاريع شكلية كتوسيعه، نحو تنمية أشمل وأعمق.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
بصرف النظر عن الحيثيات والأحداث التاريخية التي استدعت إلصاق الجماجم بأجمل الوديان في لبنان، فإن هذا الوادي الذي يفصل بين بلدتَي بتغرين وبسكنتا من الأودية البكر، نسبياً، والغنية بالتنوع البيولوجي الذي يفترض حمايته. فهذا الوادي الذي لا يزال قليل العمران، كان يفترض استمرار حمايته من العمران العشوائي، ومن مياه صرف القرى المجاورة، ومن إلقاء الردميات بعشوائية على جانبَي طريقه. أما توسيع الطريق على طريقة «استثمر واضرب ضربتك وامشِ»، عبر تركيب كسارة بحص لتكسير الردميات الناجمة عن أعمال التوسيع وبيعها، أو بيع الصخور، فأمر غريب في هذه الظروف التي تمر بها البلاد، ولا تفسير له غير الاستثمار في القطاع أو في الانتخابات الآتية! فلو كان هذا المشروع يتعلق بالسلامة العامة، لكان المطلوب إنشاء «مونسات»، أو حواجز إسمنتية، تحمي من انزلاق السيارات إلى الوادي، وإبقاء الطريق كما هو، متوسط العرض، لدفع السيارات إلى إبطاء السير وتجنب الحوادث القاتلة في عمق الوادي. فمن شروط السلامة العامة في الأودية والمناطق الشديدة الانحدار التي تتضمن مخاطر الانزلاق، أن تبقى الطرقات شبه ضيقة للحؤول دون تهوّر السائقين. وإذا كان المطلوب تأمين السلامة العامة لأهالي المنطقة، فالأَوْلى معالجة مياه الصرف المتدفقة إلى الوادي، والتي تلوث المياه الجوفية ومياه الينابيع والأراضي الزراعية والحرجية.
كان يمكن تفهّم هذا النوع من المشاريع لو اقترحه مغترب متموّل يريد أن يستثمر في منطقته للظهور، كما يحصل في أي منطقة، مع العلم أن مثل هذه المشاريع غالباً ما تكون شكلية وغير مدروسة ولا تندرج في خطط الدولة، ولا تصل إلى النتيجة المرجوّة منها. أما أن يأتي المشروع من أعضاء في كتل نيابية كبيرة موجودة في مجلسَي النواب والوزراء ويفترض أن تكون لديها تصورات واستراتيجيات شاملة لمعالجة قضايا البلد والمناطق… فأمر يدعو إلى الغرابة الشديدة! وعندما تسلّمت هذه القوى وزارة البيئة، كان يفترض أن تضع استراتيجية متكاملة لترتيب الأراضي ولإدارة ملف المقالع والكسارات والقطاع بمجمله، مع خطط لمعالجة الردميات وتعيين مراكز في كل محافظة أو قضاء لمعالجتها وإعادة استخدامها والتوفير على الجبال والوديان التدمير العشوائي من جراء المقالع والكسارات والمرامل ورمي الردميات… والنفايات. فتحت أي عنوان يندرج هذا المشروع؟
كان البعض، في فترات انتخابية سابقة، يعد أهالي المنطقة بمد جسر جوي بين الجبال للتخلص من الدوران داخل الوادي بين بسكنتا وبتغرين، وللإبقاء على جمال هذا الوادي والحؤول دون أن تطاوله يد العمران… رداً على أحلام ووعود البعض الآخر بالتوسيع. الا أن أحداً لم يفكر يوما بمشاريع للتنمية المستدامة والمتكاملة في هذه المنطقة أو في المناطق اللبنانية كافة، وما الذي يساعد أهالي القرى فعلاً على البقاء في أرضهم وقراهم والمساعدة في تأمين حاجاتهم الحقيقية والأساسية… غير شقّ الطرق وتوسيعها.
بصرف النظر عن الخلفية الحقيقية لمشروع التوسعة لطريق هذا الوادي، يطرح سكان المنطقة أسئلة كثيرة حول كيفية اختيار الموقع لتركيب الكسارة ونوعها وحجمها، وهل ستلتزم بالشروط البيئية؟ ومن درس الأثر البيئي لتوسيع الطريق؟ وهل عُرض الموضوع على وزارة البيئة؟ ولماذا اعتُبر هذا الخيار أولوية بيئية أو اقتصادية، وعلى أي أساس؟ في وقت كان يُفترض أن تكون الأولوية معالجة مياه الصرف أو دعم الإنتاج الزراعي والحيواني، أو فتح مستشفى أو مستوصف كبير لسكان هذه المنطقة المحرومين من رعاية صحية حقيقية...
رسمياً، وادي الجماجم مصنّف كـ«موقع طبيعي» بموجب القرار الرقم 1/97 (بتاريخ 2/7/1998). ويحدّد مرسوم تقييم الأثر البيئي الرقم 8633/2012 الأصول المتبعة للقيام بهذا التقييم. ولا نعتقد أن هناك من درس هذا الجانب إضافة إلى جوانب شروط السلامة على الطرقات، ومن جراء مصادر أخرى كثيرة.
مصادر وزارة البيئة نفت أن تكون قد تسلّمت أي طلب لدراسة الأثر البيئي للمشروع، أو أي دراسة لتقييمه. وبصرف النظر عن هذا الموضوع الذي لم يمنع قيام مشاريع أكثر خطورة في أكثر من منطقة في الفترة الأخيرة، قبل وبعد صدور المراسيم ذات الصلة، قد لا تحتاج هكذا مشاريع إلى دراسة أثرها، بقدر ما تحتاج إلى عقل دولة تفكر بشكل استراتيجي ومتكامل في وضع أسس للتنمية الحقيقية والمستدامة، ولا سيما في المناطق البعيدة عن العاصمة أو عن المدن الكبرى.
سبق أن عرف المتن هذا النوع من المشاريع، يوم تمّ شق طريق المتن السريع وتركيب كسارات متنقلة، يومها استفاد من استفاد. فهل هناك خطط كهذه الآن؟
كما يمكن أن تكون توسعة طريق المتن السريع، ومشروع توسيع طريق «بيت مسك»، المتفرع عنه، نموذجاً، إذ تم توسيع الطريق في هذه المنطقة وتشويهها، فيما تُركت مياه الصرف تتدفق في الوادي! ومن يمر في هذه المناطق التي تم تصنيفها «سياحية» يعرف، بسبب الرائحة القوية الدائمة، عما نتحدث! وقد تمّت المطالبة سابقاً بفتح تحقيق حول كيفية تمرير هذه المشاريع من دون دراسات لأثرها البيئي والصحي، وحول دور الوزارات المعنية وتواطئها في تمرير هذه المشاريع المشبوهة.
في الحصيلة، تنمية القرى ما بعد وادي الجماجم تحتاج إلى وسائل أخرى غير توسيع الطرق. فهي تعاني من صعوبة تصريف الإنتاج الزراعي ومن انعدام الأمن الصحي والاقتصادي والاجتماعي...الخ. فهل نعيد النظر في المبادرات تحت عناوين أكثر قرباً من الحاجات الحقيقية للناس، بدل استسهال الاستثمار في المآسي؟