في وادي الحجير، «الوادي المقدّس» كما يسمّيه بعض أبناء المنطقة لكونه المكان الذي يذكّر الأهالي بمحطات كثيرة، تجسّد تاريخاً من المقاومة والجهاد والانتصارات، بما فيها الأحداث الأليمة التي تؤكد صلابة وعزيمة أهل الأرض على التحدّي ومواجهة الاحتلال. ابتداءً من «مؤتمر الحجير» الذي كان منطلقاً لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وصولاً إلى دوره في تحقيق الانتصارين في العام 2000 والعام 2006.
في يوم التحرير، تعود ذاكرة كبار السن في المنطقة إلى الأيام الأولى التي حاول فيها العدو الإسرائيلي استباحة حرمة هذا الوادي الأخضر الجميل، بالاعتداء على المدنيين، في محاولة لعزل الوادي، بعد أن كان المصدر الوحيد لأبناء القرى المجاورة للحصول على المياه العذبة ومياه الريّ من ينابيعه الوفيرة، إضافة إلى كونه المتنزه الطبيعي الذي تعقد فيه اللقاءات ويقصده المصطافون، كما يقصده المزارعون لزراعة الخضار والحبوب في حقوله الخصبة.

بين 1969 و 1979

يقول أبو لواء عوالي (67 سنة)، إن «أوّل مركز عسكري لمقاومة إسرائيل في المنطقة كان في العام 1969، في إحدى تلاله المعروفة باسم تلّة يحيى، نسبة إلى النبي يحيى، الذي يعتقد الأهالي أنه قصدها يوماً وأقام في مغارتها، حيث توجد آثار كثيرة في هذه التلّة وأبنية حجرية مهدّمة، وآبار ونواويس».
في العام 1979، حدث ما لم يكن في الحسبان؛ قرّر العدوّ أن يعزل الوادي. كمنَ جنوده قرب نبع الحجير، عندما كان العديد من أبناء المنطقة، من بنت جبيل ومرجعيون، كعادتهم يقصدون النبع للحصول على المياه لريّ أراضيهم الزراعية، بعد توقّف جرّ المياه إلى قراهم من مشروع الطيبة، وأطلقوا الرصاص والقذائف على جرارين زراعيين وسيارة أوبّل زرقاء اللون، فاستشهد أربعة مواطنين، هم: زيد حسين وحسن شهاب (تولين)، محمد أحمد الزين (قبريخا)، وعباس حرز (مجدل سلم).
يقول عوالي: «حضرت بعد المجزرة مع مجموعة من أبناء البلدة برفقة جنود من الكتيبة النيجيرية، وكان جنود الاحتلال مختبئين بين الأشجار، والسيارة لا تزال تشتعل، وبدت جثث الشهداء محروقة بالكامل، فقمنا بنقلها إلى بلدة تولين». منذ ذلك الوقت «تم عزل الوادي، وحرم الأهالي النزول إليه، إلى حين التحرير والنصر الكبير». ويبيّن أن «لجنود اليونيفل دوراً في عزله، حتى إن الحرائق التي كانت تشتعل بالقرب من موقعهم كانوا يتقصدون عدم إطفائها، لكشف الوادي أمام أي عمل مقاوم، لكن ذلك لم يحل دون أن يصبح الوادي أهم ممرّ ومنطلق للمقاومين للدخول إلى المنطقة الحدودية وشنّ العشرات من العمليات البطولية».


1985: العملية الأولى لـ«المقاومة الإسلامية» في الوادي برواية مشارك فيها

أصبح الوادي الممتد من بلدة عيترون إلى نهر الليطاني في قعقعية الجسر، مقراً ومنطلقاً للعمليات البطولية ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى حين التحرير في العام 2000. ويبدو أن أوّل عملية بطولية ونوعية شنّها مقاتلو «المقاومة الإسلامية» في الوادي تعود إلى العام 1985. يومها، كان العدوّ لا يزال متربصاً بالقرى والبلدات المحيطة بالحجير، ولم يكن قد انسحب إلى «الحزام الأمني». فقد كانت بلدات مجدل سلم وقبريخا وشقرا وبرعشيت لا تزال تحت الاحتلال، وهي في الخط الأمامي للمواجهة، والوصول إلى الوادي يعدّ خرقاً لافتاً. في 27 أيار، من ذلك العام، قرّرت مجموعة من رجال المقاومة بقيادة الشهيد سمير مطوط، تفجير عبوة ناسفة كبيرة في دورية للجنود الإسرائيليين كانت مهمّتها تبديل الجنود وإمدادهم بالعتاد اللازم في معبر الجرن، الذي يربط بلدات صفد البطيخ ومجدل سلم وشقرا، وهو الذي يفصل القرى المحرّرة حينها، عن القرى المحتلّة في المنطقة.

«الوصول إلى وادي السلوقي أو وادي الحجير من بلدة شقرا كان أمراً دقيقاً، لكون الطريق وموقع العملية المفترض مكشوفان على موقع العبّاد الإسرائيلي، إضافة إلى أنه لا يبعد أكثر من كيلومتر واحد عن الحدود مع فلسطين المحتلّة». يقول أحد المجاهدين المشاركين في العملية، موضحاً أن «الدورية التي كنا قد رصدناها كانت مؤلّفة من مجنزرتين وجيب صغير، وقرّرنا أن تكون العملية على منعطف منحدر في الطريق الذي يربط بلدة شقرا بوادي السلوقي- الحجير، لكون الدورية حتماً سوف تخفّف من سرعة سيرها أثناء صعودها باتجاه شقرا وصولاً إلى معبر الجرن». تم زرع العبوة مساءً، بعد أن تم صنعها يدوياً في منزل أحد أبناء بلدة شقرا، وقرّر الشهيدان أمثل حكيم ( شقرا) وعباس طالب (خربة سلم) تفجيرها لاسلكياً من قلعة دوبية المشرفة على المنعطف، على أن يكون الشهيد سمير مطوط في مكان قريب، وبقية الشباب موزّعين في أماكن مختلفة، استعداداً للاشتباك مع أفراد الدورية بعد تفجيرها. لكن، ما حصل أن الدورية تأخّرت عن موعدها المفترض، فانتظرنا حتى عصر اليوم الثاني، لنتفاجأ بقدوم عدد من الآليات العسكرية خلف الدورية المنتظرة، التي تقدّمت باتجاه الكمين، وتم تفجير العبوة، ليصبح الشهيدان حكيم وطالب، بعد خروجهما من القلعة، مكشوفين للجنود، فكان الاشتباك وسقطا شهيدين».

ويروي المجاهد أن «الشهيد مطوط تمكّن من التسلّل ليلتحق بنا ويخبرنا بما حصل للشهيدين في بلدة تبنين التي وصلنا إليها سيراً على الأقدام». كان مع الشهيد مطوط مجاهدُ آخر مهمّتُه تصوير العملية، لكن تبيّن لاحقاً أن خللاً حدث للكاميرا أثناء التصوير. وبحسب أحد أبناء بلدة حولا، فإن «هذه العملية كانت من العمليات الكبيرة التي قتل فيها عدد كبير من الجنود الإسرائيليين، فقد حضرت مروحية لنقل القتلى والجرحى». ويشرح أن «العبوة كانت كبيرة وزرعت فوق الأرض، لذلك انقلبت آلية عسكرية مليئة بالجنود، وقد أدّت العملية وقتها إلى قتل وجرح ما يزيد على 12 جندياً إسرائيلياً».

وقعُ استشهاد حكيم وطالب كان كبير الأثر على أبناء المنطقة. فهي العملية الأولى في المنطقة، وهذا أسهم في زيادة حماسة الشباب للانخراط في العمل المقاوم. فبعدها بعدة أيام، تم تنفيذ عملية على طريق عام بلدة شقرا أدّت إلى انقلاب آلية عسكرية وقتل وجرح من فيها، ثم عملية أخرى على حاجز للعملاء داخل البلدة نفسها، حيث تظاهر عدد من نساء البلدة ضد العملاء مطالبين جهارة بانسحاب العدو. كل ذلك أدى لاحقاً إلى إخلاء معبر الجرن والانسحاب من عدة قرى وصولاً إلى «الحزام الأمني» سابقاً.