في الجمهورية المريضة تُهان الدولة فلا تطلُب اعتذاراً، بل تطلب استرحاماً من مُهينها. وفي الجمهورية التي اعتادت العيش على التسوّل مِن الخارج، لا تكتفي الدولة باستقالة وزير ارتجل فأخطأ ثمّ اعتذر عمّا فعله، بل تكاد تتوسّل طلباً للمغفرة. وهنا لا حاجة إلى قول الكثير عن ابتداع جوقة كبيرة من اللبنانيين «حركات» لتأدية دورهم في تمثيلية «التضامن» مع المملكة العربية السعودية التي لم تتوانَ منذ سنوات عن القيام بخطوات تمسّ بأمن البلد السياسي والأمني والاقتصادي، بدءاً من طرد لبنانيين وسجن آخرين وصولاً إلى اختطاف رئيس حكومة، كما دعم الجماعات الإرهابية ومشاركتها في حصار لبنان. فرُغم تفاصيل كثيرة تؤكّد تورطها في تخريب الوضع اللبناني، لا يزال هناك من ينتظِر فرصة لتقديم فروض الطاعة إليها. هذه المملكة التي يتجنّد لأجلها لوبي سياسي إعلامي فني يُقاد أفراده للتكفير عن «ذنب» ارتكبه وزير الخارجية شربل وهبة، في مشهد أقل ما يُقال فيه إنه إفراط في الانبطاح.لا شكّ في أن الوزير شربِل وهبة خالفَ الأصول الدبلوماسية، وعبّر بكلام من خارِج القاموس السياسي عن موقِف لا يمُكن أن يحتمِله أحد في الدولة، ما تسبّب في أزمة مع الرياض. لكن هذا الخطأ كانَ يُمكن تداركه باعتذار وهبة، وبموقف رسمي لبناني رافض لكلامه ومؤّكد «حرص لبنان على أفضل العلاقات مع السعودية ومع أشقائه العرب». لكن الرياض أصرّت على إذلال وهبة، فرفض الأخير مفضّلاً التنحي عن منصبه. أما الدولة، فقررت الانصياع. وإضافة إليها، ثمة مَن أراد لهذا الخطأ أن يتحوّل إلى باب للاستعراض والاستثمار السياسي واستجداء الصفح والعطف، ليسَ مخافة ما يُمكن أن يجُرّه كلام وهبة من تداعيات (لن تزيد شيئاً على ممارسات المملكة تجاه لبنان في السنوات الماضية)، بل طمعاً بالعفو السعودي عنها، بعدَ أن قرّرت المملكة إنزال العقاب الجماعي على اللبنانيين، لكونهم فشلوا في تأدية ما هو مطلوب منهم بأن يكونوا وكلاءها في حرب تريدها شنّها على جزء من اللبنانيين. وهذا الاستعراض ظهَر أمس في مقرّ إقامة السفير السعودي، وليد البخاري، الذي تحوّل الى «مزار» لوفود من كتل حزبية مختلفة، بينها وفد الحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل والقوات اللبنانية وغيرها من عشائر ورجال دين، وفنانين ورجال أعمال وسياسيين، حضروا لإدانة ما صدرَ عن الوزير وهبة! والغالبية العظمى ممن قصدوا البخاري لنيل بركته، والإكثار من التملق له ولحكام المملكة إلى درجة مقززة، لم يسبق أن هزّهم اختطاف رئيس حكومة، إلى حد أنهم لم يجرؤوا حينذاك على السؤال عنه.
منذ الصباح الباكر، وفيما كانَ وهبة يقدّم أوراق إعفائه من مسؤولياته كوزير في حكومة تصريف الأعمال، بدأ البخاري باستقبال المتضامنين في خيمة في حديقة منزله، وجلسَ فيها مع زواره أرضاً، في ردّ واضح على استخدام وهبة كلمة «بدو» لتحقير سكان دول الخليج.
ضغوط سعودية مورِست لافتعال الحركة التضامنية


وكان أول زوّار البخاري مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، الذي قال إننا «ننتظر الإجراءات الحاسمة التي يمكن أن تصحّح ما صدر من إساءات في حق ‏السعودية ودول مجلس التعاون». ومن بين الزوار شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي، الوزير السابق مروان شربل، النواب نهاد المشنوق وفيصل كرامي وفؤاد مخزومي، كتلتا المستقبل والقوات... وفنانون ورجال أعمال، والنائب السابق ميشال معوض.
وفيما أكد السفير السعودي في دردشة سريعة مع الإعلاميين أنّ «ما أكسب المملكة احترام المجتمع الدولي، أنّ لديها لغة واحدة وخطاباً سياسياً واحداً في العلن وفي السر»، مشيراً إلى أنّ «ما يحكى عن سعي المملكة لترحيل اللبنانيين لا أساس له من الصحة»، علمت «الأخبار» أن ضغوطاً كثيرة مورِست على الجانب اللبناني لأجل افتعال هذه الحركة التضامنية. وعلى عكس ما قاله البخاري، أكدت مصادر مطلعة أنه كانت هناك خطوات تصعيدية تدرسها الرياض للرد على «فعلة» الوزير وهبة، من بينها طرد لبنانيين في الخليج وسحب السفير السعودي. أما وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الذي لعِب دوراً كبيراً في الضغط فقال، في تصريح أمس، إن «هيمنة حزب الله على القرار السياسي تعطل أي إصلاح حقيقي»، وإن «تصريحات وزير خارجية لبنان أقل ما يقال عنها إنها غير دبلوماسية، وهي لا تعبّر عن الشعب اللبناني».
وكان الرئيس عون قد وقّع مرسوم تعيين وزيرة الدفاع زينة عكر وزيرة للخارجية بالوكالة، بعد قبوله طلب الوزير وهبة إعفاءه من مهامه، في محاولة لاحتواء الأزمة الدبلوماسية. ودعا عون عكر، بحسب بيان صادر عن الرئاسة، إلى «المباشرة بمهامها كوزيرة للخارجية بالوكالة، إضافة إلى مهامها الأصلية».
من جهة أخرى، دعا رئيس مجلس النواب نبيه إلى عقد جلسة لمجلس النواب، ظهر يوم الجمعة في قصر الأونسكو، لتلاوة رسالة رئيس الجمهورية، والتي اعتبر رؤساء الحكومة السابقون أنها «مليئة بالمغالطات، وفيها تحوير للوقائع التي حصلت في تكليف الرئيس سعد الحريري بمهمة تشكيل الحكومة حتى اللحظة الراهنة؛ إذ إنّه حاول خلافاً للحقيقة تحميل رئيس الحكومة المكلف مغبَّة التأخير في تشكيل الحكومة، وامتناعه عن القيام بهذه المهمة وفقاً للأصول».



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا