كان ثمّة أمل، ولو ضئيل، باستعادة أملاك خاصة وعامة من براثن «سوليدير». الأمر بمثابة حُلم شبه مستحيل، ساهمت المستشارة المقررة في مجلس شورى الدولة القاضية ريتا كرم في بناء أرضية صلبة له كي يصبح قابلاً للتحقق. لكن الشركة المُحتلة بما تمثله من أخطبوط مالي وسياسي تحرّكت فوراً عند قرب المسّ برأس مالها وأرباحها، لتعيد تصويب بوصلة القضاء. على الأثر، تدخل رئيس مجلس الشورى لضمان حق سوليدير في «إطالة عمرها»، فوفّر لها ما يتطلّب لنقض التقرير الأول وإلغائه. باختصار، أثبت مجلس شورى الدولة، مرة جديدة، أنه بخدمة رأس المال، لا بل أكثر من ذلك، «يبصم» على سرقة عقارات المواطنين ويعمل ضد مصلحة الدولة
لم يدم حلم القضاء على شركة «سوليدير» طويلاً. هذا «الوحش» الذي استوطن العاصمة بيروت وسرق منازل أبنائها ومحالّهم وردم البحر، ليرفع مكانهم أبراجاً باهظة الثمن، مستمر بما بدأه قبل 26 عاماً، بحماية قضائية. فتقرير المستشار المقرّر في مجلس شورى الدولة، القاضية ريتا كرم، التي أوكل إليها وضع تقرير أولي بشأن دعوى صاحب فندق السان جورج فادي خوري لإبطال المرسوم الرقم 15909 تاريخ 09/12/2005 الذي أتاح تمديد عمل سوليدير من 25 سنة إلى 35 سنة، أي حتى عام 2029، لم يأتِ ملائماً لمصلحة أصحاب رأس المال وسارقي الأملاك العامة والخاصة. ذلك لأن كرم وقفت في وجه أخطبوط سوليدير المالي والسياسي ورأت في تقريرها الأولي (راجع «الأخبار»، 6 تشرين الثاني 2020) بصفتها مستشاراً مقرراً في الغرفة الأولى التي أودعت الملف، وجوب إبطال المرسوم «غير القانوني»، مشيرة الى ضرورة التقيّد بعمر الشركة الرئيسي الذي يفترض أن يكون قد انتهى في عام 2019، أي قبيل أن تعمد حكومة فؤاد السنيورة الى ضمان «أبدية» سوليدير عبر التمديد لها 35 عاماً، علماً بأن طلب السنيورة بداية كان يريد إبقاءها لمدة 75 سنة! العدالة، ولو المتأخرة، التي أرادت كرم تحقيقها لمصلحة مالكي الأرض والدولة واللبنانيين بشكل عام، أتت بمثابة انتصار في ظل استشراء الفساد وفرض مافيا رأس المال قرارها في كل مفصل من مفاصل الدولة. لكن الحُلم كان عصيّاً على التصديق، وهكذا ثبت.
فما جرى لاحقاً هو أن رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس، سحب الملف من يد القاضية كرم ووضعه في مجلس القضايا حتى يُعاد إعداد تقرير جديد من قبل مستشار مقرر آخر. في حين أن الأصول القانونية تقول بتحويله الى مجلس القضايا لاتخاذ قرار نهائي فيه، لا نقله من يد الى أخرى بنية تغيير مضمونه بما يتناسب ومصلحة سوليدير. كان في مقدور الياس تعيين مقرر جديد في حال اكتشاف وجود خطأ فادح في التقرير الأول، وعندها يفترض به إحالة القاضية الى التأديب لإثبات عدم مهنيّتها ومخالفتها للقانون.
لكن للمصادفة، لم يقم رئيس مجلس شورى الدولة بذلك كله ولا أعطى تبريراً لسحب الملف. الا أنه وضع الطعن بمرسوم اطالة عمر سوليدير بعهدة القاضية فاطمة الصايغ عويدات لتعيد دراسة الملف وإصدار رأيها. وعويدات هي نفسها التي أمّن لها رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري غطاء وحماية سياسية منذ عام عندما كانت تشغل منصب رئيسة مجلس الخدمة المدنية، لتمتنع بعدها عن حضور التحقيق بقضية فساد في تعاونية موظفي الدولة أمام النيابة العامة. بوضوح أكبر، سلّم القاضي فادي الياس ملف الحكم في قضية رئيسية تحدّد مصير شركة «سوليدير» ــــ أحد مشاريع رفيق الحريري ــــ الى قاضية محسوبة على سعد رفيق الحريري! وتلك فضيحة تستوجب تحويل القضية برمتها الى التفتيش القضائي، لأن ثمة من خضع لرغبة أصحاب رأس المال وجشعهم وقرّر الوقوف الى جانبهم على حساب إعادة الحق الى أصحابه. وثمة من لم يعجبه صدور تقرير قانوني يستند الى وقائع، للمرة الأولى منذ 26 عاماً بعدما دأبت سوليدير على الفوز بكل الأحكام أو تنييمها، فوجد الحلّ في تنحية القاضية وتسييس الملف بوضعه بعهدة قاضية أخرى توحي في تقريرها أنها أحرص من سوليدير على مصالحها!

عويدات تنحاز لسوليدير
في التقرير الصادر عن القاضية عويدات بتاريخ 16/3/2021، والمنشور أخيراً في الجريدة الرسمية، تَعرُض القاضية مُلَخّصاً لطلب إعادة المراجعة المُقدّم من صاحب فندق السان جورج، وردّ الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط مدينة بيروت (سوليدير) عليه، لتبني رأيها بالانحياز الى ما أوردته الشركة، متجاهلة تقرير زميلتها قبيل أشهر. فالقاضية عويدات تؤيد الشركة المحتلة لمساحات شاسعة في بيروت، بأن المهمة التي نشأت لأجلها لم تنته بعد ومن بين هذه المهمات غير المنجزة تملُّك العقارات وتنفيذ أشغال البنى التحتية وترتيب وإعادة إعمار المنطقة وردم جزء من البحر مقابل الوسط التجاري (!) والقيام بالخدمات والأعمال الاستشارية والهندسية والتطويرية في كل المجالات العقارية (...) وترتيب المناطق والمدن داخل لبنان وخارجه. وهنا، خلافاً لما قالته القاضية كرم في التقرير الأول حول مخالفة سوليدير لسبب إنشائها وتوسعها في مهماتها لتشمل أعمالاً في الخارج، عدّت القاضية عويدات هذا التعديل من ضمن المهمات الطبيعية التي تبرر أسباب استمرار الشركة، لتخلص الى أن موضوع سوليدير «لا يزال قائماً ويمكن بالتالي تمديد وجودها».
عمدت عويدات الى رد كل الأسباب التي بنى عليها صاحب السان جورج طعنه بالمرسوم، من مخالفة الواقع وتشويهه الى مخالفة الأصول الجوهرية المتصلة بالمبادئ العامة، الى فقدان التعليل. وردّت القاضية طلب إعادة المحاكمة، ولاقت رئيس مجلس شورى الدولة السابق شكري صادر في كل أسباب ردّه للدعوى سابقاً، علماً بأن القاضية رافقت صادر في الغرفة نفسها طوال مدة شغله لمنصبه.
قال رئيس مجلس شورى الدولة إنه لا يهتم لولاءات القضاة الحزبية رغم تعيينه قاضية محسوبة على تيار المستقبل لتقرّر في ملف «سوليدير»


ما هو لافت هنا أن مفوض الحكومة لدى مجلس الشورى فريال دلول استغربت لدى اطلاعها على تقرير القاضية عويدات تحويله إليها عبر القول إنه «يفهم من نص المادة 44 أن الدعوى يتابع النظر فيها من المرحلة التي وصلت إليها تمهيداً لإصدار القرار النهائي»، وأنه «عملاً بأحكام المادة 88 وما يليها من نظام المجلس يصبح القرار النهائي جاهزاً للإصدار بعد نشر البيان في الجريدة الرسمية وإبداء الخصوم ملاحظاتهم كما هي الحال في الدعوى الراهنة، إنما إحالة الملف الى مجلس القضايا تعني أن الملف أصبح أمام هيئة مغايرة للهيئة التي بموجبها تم وضع التقرير (...) وخاصة أن الملف أصبح جاهزاً لإصدار القرار النهائي». وأشارت الى أن «تعيين مقرر جديد (أي عويدات في هذه الحالة) ومتابعة السير في الدعوى من النقطة التي وصلت إليها عملاً بأحكام المادة 87 من نظام المجلس، الأمر غير الحاصل في الدعوى الراهنة، ما يشكل مخالفة للأصول الإدارية». ما يعني أن مفوضة الحكومة نفسها استغربت طريقة تحويل رئيس مجلس الشورى الملف من يد المستشار المقرر الأول حتى يعاد البدء فيه من جديد، في حين أن الأصول القانونية تقضي بإصدار حكم نهائي فيه. ووصفت هذا الأداء بأنه مخالف للأصول الإدارية. رغم ذلك، و«استطراداً» على ما أضافته المفوّضة في تقريرها، «نؤيد مضمون التقرير للنتيجة التي خلص اليها لانطباقه على الواقع والقانون. وتلك فضيحة أخرى تضاف الى الفضيحة الأولى التي قام بها القاضي فادي الياس، علماً بأن التقرير الأول الذي وصلت إليه المستشارة المقررة القاضية ريتا كرم، حاز موافقة مفوض الحكومة المعاون مارون روكز بتاريخ 21/10/2020.

القضاء بخدمة «الاحتلال»
من ناحيته، يصرّ رئيس مجلس الشورى على إغماض عينيه بعدما طمس ملف سوليدير ووقف مع الشركة المحتلة ضد أهل الأرض المسروقة وضد الدولة في آن. ففي اتصال مع «الأخبار»، بتاريخ 21 آذار 2021، أي عقب تنحية القاضية ريتا كرم ونقل الملف الى مجلس القضايا، حيث غالبية القضاة حكموا لمصلحة الشركة على مدى السنين الماضية، وردّاً على سؤال عن الإجراءات المقبلة في هذا الملف، قال القاضي الياس يومها إنه «يتم تعيين مستشار مقرر جديد ليصدر تقريراً ثانياً يجري نشره مع انتهاء مهلة التعليق» (راجع «الأخبار»: «طلب إبطال التمديد لـ«سوليدير» في «شورى الدولة»: الملف في دائرة الخطر»). حصل ذلك رغم أن الياس كان قد عيّن مستشاراً آخر هي القاضية فاطمة الصايغ عويدات التي كانت قد أصدرت تقريرها قبيل أسبوع واحد من الاتصال. «الأخبار» أعادت الاتصال برئيس مجلس الشورى الذي برّر ما سبق بأنه «مش حافظ شو هنّي الملفات» وأن »هناك نحو 2500 دعوى في المجلس، فكيف لي أن أذكرها كلها؟». وهنا إما أن القاضي الياس لا يعلم ما يجري في المجلس، وهو مجرد واجهة للحاكم الحقيقي، وإما أنه يعلم وآثر إخفاء الحقيقة. في الحالتين، أداء «الريّس» يوصل إلى النتيجة نفسها، وهي خدمة مصالح رأس المال، علماً بأن ملفاً من وزن تصفية أملاك سوليدير يستحيل أن يُنسى وألا يكون على قائمة أولويات أي قاضٍ بدليل عمله على كفّ يد القاضية التي أصدرت تقريراً يجيز تصفية الشركة وإعادة الحق إلى أصحابه، وتحويل الملف الى قاضية أخرى تُغلّب ولاءها الحزبي على منصبها القضائي.
وعند سؤال القاضي الياس عما دفعه الى وضع ملف سوليدير بيد قاضية محسوبة على تيار «المستقبل»، عرّاب الشركة ووالدها، أجاب بأن «هوية القضاة الحزبية لا تعنيني»! وأضاف أن لا قضاة آخرين غير هؤلاء و«عندما يتجه الملف الى المذاكرة سيصوّت عليه سبعة قضاة»، علماً بأنه سبق لغالبيتهم أن صوّتوا لمصلحة سوليدير في مختلف القضايا!
تصرّف الياس معطوفاً على تقرير القاضية عويدات، وانتماؤها الحزبي يُمهدان بما لا شكّ فيه الى قرار نهائي يحكم لمصلحة السماح لسوليدير بإكمال مهمتها. وفعلياً، بات ثمة رأيان اليوم: واحد تمثله القاضية كرم التي استندت الى القانون لتقول إنه يجب تصفية سوليدير وإن مهمتها انتهت، والثاني تمثله القاضية عويدات التي طوّعت القانون لخدمة الشركة. وفي هذا السياق، أبدت «سوليدير» امتعاضها من الشكاوى ومحاولة تصفيتها، هي التي تملك قيمة سوقية بنحو «2.6 مليار دولار وقيمة فعلية تزيد على 4 مليارات دولار ستؤدي الى وقف التداول بالأسهم في البورصة مع ما يلحق جراء ذلك من تجميد أموال المساهمين، كما يؤدي الى إنهاء عقود موظفي الشركة ويؤدي حتماً الى انعدام ثقة المستثمرين العرب والأجانب بلبنان وهم يشكلون الجزء الأكبر من المساهمين»! لذلك كان لزاماً على رئيس مجلس شورى الدولة التحرّك لإنقاذ سوليدير وسمعتها لدى العرب والأجانب، وأيضاً تثبيت سرقتها لأملاك مئات العائلات وللملك العام في وقت يشهد فيه لبنان أكبر أزمة اقتصادية ومالية ونقدية في تاريخه!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا