ليس التدخل الفرنسي، ولا شروط رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولا بيانات الرئيس المكلف سعد الحريري، ولا «بروباغندا» حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وبيانات جمعية المصارف المشبوهة، هي التي توقف الاصطدام الكبير. فما هو متوقع أن يعيشه لبنان نتيجة الأزمة الاجتماعية والمالية في قطاع الدواء والمحروقات والمواد الغذائية، وابتكار شتى أنواع الإذلال اليومي، لم يحصل بعد. أحد الأسباب الرئيسية التي تحول دون تحقّق هذا الاصطدام، هو شريحة من اللبنانيين في بلاد الاغتراب.فبخلاف القصائد التي تغنى بها السياسيون بالمنتشرين والمغتربين والعاملين في دول الخليج وإفريقيا، ظل هؤلاء بالنسبة الى البعض الدجاجة التي تبيض ذهباً. لكن حين وقعت واقعة المصارف وسرقت أموال المودعين، كان هؤلاء أول من نال نصيبه منذ بداية الأزمة في فقدان مدّخرات سنوات التعب في الاغتراب التي أودعوها في مصارف لبنان، أو أغراهم مصرفيّون وسياسيون بنقلها الى لبنان، بذريعة تشجيع المغتربين في إفريقيا والخليج ودول أميركا الجنوبية على الاستثمار في «بلدهم الأم». المفارقة البشعة التي يتذرّع بها أصحاب المصارف اليوم أن هؤلاء وضعوا أموالهم في لبنان بحجة الفائدة، «محللين» سرقتهم لآلاف المغتربين من كل الطوائف والمؤيدين لتيارات سياسية حوّلت الاغتراب ــــ قبل أن يصبح اسمه «الانتشار» ــــ إلى ساحة لجذب الرساميل والتمويل والحضور السياسي والانتخابي. وقد يكونون مرة أخرى مادة استثمار سياسي في الانتخابات المقبلة من دون أي حياء، بصرف النظر عن أن أحداً من القوى السياسية والأحزاب التي تدافع عن المنظومة المصرفية، لم يتدخّل للتعويض عن السرقة التي تعرّضوا لها.
لكن هذه الشريحة، التي تعاني منذ بداية الأزمة في الحصول على أموالها، هي نفسها التي تحافظ اليوم على ما تبقى من كرامة اللبنانيين وعائلاتهم. جزء منها شارك في التضامن مع تظاهرات 17 تشرين، فتظاهر وأقام الاحتفاليات، وحركت الأعلام بحملات دعمها ومقارعتها للعواصم المعنية في كف يد دعم السلطة القائمة. وهي بدأت منذ ذلك الوقت تحشد المساعدات والدعم للبنانيين في بداية أزمتهم.
أحدث انفجار المرفأ صدمة اغترابية بقدر ما كان صدمة محلية. وتعامل المغتربون مع الانفجار كأنه أصابهم. وهذه كانت نقطة تحوّل، إذ بدأت المساعدات تأخذ بعداً آخر، من دعم للمستشفيات ومؤسسات الإغاثة والصليب الأحمر، إضافة الى الجمعيات وتقديم مساعدات مباشرة للمتضررين. ولم يكن هذا الدعم بسيطاً بحسب الجمعيات المعنية التي نالت حصتها، وتمكنت بفضل هذه المساعدات من إعمار وترميم منازل ومحال متضررة، كما إغاثة وتأمين مستلزمات العائلات المصابة.
تزامناً مع الانفجار وبعده، تفاقمت حدة الأزمة الاقتصادية، وارتفع سعر الدولار ارتفاعاً جنونياً، فزاد من حالة الانهيار الاجتماعي التي أصابت العائلات اللبنانية. عدا عن تأقلم اللبنانيين مع أزماتهم، ساهم الاغتراب في تغطية العجز المتراكم لدى العائلات، ما أدى ــــ إلى جانب عوامل أخرى ــــ إلى تراجع في حركة الاعتراض الشعبية على كل المستويات. أولاً، من خلال التحويلات بالدولار بعدما أعيد العمل بدفع التحويلات الطازجة والمباشرة به، إثر انكفاء المغتربين عن التحويل بعد تعليق العمل بقرار الدفع بالدولار. والزحمة أمام مكاتب التحويلات المالية صارت روتينية بفعل مدّ العاملين في الخارج، من إفريقيا والولايات المتحدة وأوروبا، عائلاتهم بدفعات شهرية.
يُضاف إلى ما تقدّم، حملات «الإغاثة» بمعناها المباشر. فصناديق المساعدات الاغترابية من مؤسسات وجمعيات تمدّ فروعها في لبنان بالأموال لتأمين الضروريات من طعام ومستلزمات يومية. ويملك عدد من العاملين في قطاع هذه الجمعيات روايات لافتة عن حجم هذه المساعدات التي تعوّض العائلات المحتاجة شهرياً عن نسبة كبيرة من احتياجاتها. كذلك عملت جمعيات اغترابية، في الأشهر الماضية، على دعم البلدات التي تنتسب إليها بمساعدات مالية للطلاب وبتأمين أجهزة تنفس وفحوصات الكورونا مجاناً.
ورغم أن انتشار الكورونا حدّ من حركة الطيران بين الخارج ولبنان، إلا أن مغتربين كثراً، وتحديداً العاملين في دول كانت قيود السفر فيها مخففة، حوّلوا يوميّاتهم للتبضّع في المحال التجارية الغذائية الى تأمين مستلزمات عائلاتهم في لبنان من أبسط الأمور الى أهمها كحليب الأطفال، المفقود أياماً كثيرة في لبنان، الى مواد غذائية متنوعة. ويندر أن يصل لبناني من تلك الدول من دون حقائب مليئة بشتى أنوع الضروريات. كما أن الأدوية التي تصل الى لبنان ولا سيما من أوروبا أو من دول قريبة كتركيا ومصر والأردن، والتي باتت مفقودة في بيروت، تشكل أحد أوجه المساعدات الأساسية التي يؤمّنها المغتربون (إذا لم تخترع أجهزة الأمن والجمارك سبلاً للتضييق عليهم). ومع تخفيف دول أوروبية وأميركية من القيود على حركة الطيران بفعل الكورونا، يتوقع أيضاً ازدياد حجم الذين سيزورون لبنان، مستفيدين أيضاً من التفاوت في الأسعار بعد انخفاض سعر الليرة، ما يعني أن هذا الشريان الحيوي سيضخّ مزيداً من العملة الصعبة في لبنان. يضاف الى ذلك التحويلات الجديدة التي باتت تؤمّنها الهجرة الجديدة، التي حدثت بفعل الأزمة الاقتصادية، في كل القطاعات، من عمال وأطباء ومهندسين وممرّضين وأساتذة. الحسنة الوحيدة لهذه الهجرة، أن هذا الرعيل تعلّم من تجربة من سبقه، فتحويلاته وجنى عمره لن تكون هذه المرة طعاماً سائغاً في أيدي المصارف اللبنانية، بل ستكون محصوةً في إبقاء عائلاتهم على قيد الحياة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا