تَرك الجروح المفتوحة من دون تنظيف ومعالجة، والرهان على عامل الوقت للشفاء أو القدرات الماورائية، يُعدّ انتحاراً... تماماً كما تعاملت الدولة اللبنانية مع مسألة الديون بالعملة الأجنبية (يوروبوندز)، منذ أن أعلنت في 7 آذار 2020 التوقّف عن سداد السندات التي تستحق في تلك السنة (بقيمة 4 مليارات و300 مليون دولار، مجموع أصل الدين والفوائد المُترتّبة عليه)، والإصدارات الـ 27 اللاحقة. يومها، اعتُبر قرار حكومة الرئيس حسّان دياب تاريخياً وجريئاً، لـ«تحدّيه» النموذج القائم على الاستدانة وتقديس مصالح الدائنين على حساب المجتمع. وليس أدلّ على ذلك أكثر من الجبهة التي فتحها مصرف لبنان والمصارف وأعضاء ناديهم من السياسيين ورجال الأعمال، بوجه حكومة دياب والمديرين والمستشارين الذين عملوا على المشروع. إلا أنّ القرار بقي ناقصاً، ولا تزال «اليوروبوندز» مادّة «ابتزاز» ضدّ الدولة. المسؤولية لا تتحمّلها حصراً الحكومة المُستقيلة، بل بشكل أساسي تعطيل «حزب المصرف» ــــ نيابياً ومالياً ــــ خطة «الإصلاح المالي»، ما أعاق المفاوضات مع الدائنين وإعادة هيكلة الديون. وقبل ذلك، سلّمت المصارف «رَقبة» الدولة للدائنين الأجانب عبر بيعها سندات لهم، بما أدّى إلى رفع حصّتهم في كلّ استحقاقات الـ 2020 إلى 76.7%. ولأنّ العقود تنصّ على موافقة 75% من الدائنين على أيّ آليّة جديدة، تحوّلت «اليوروبوندز» إلى القنبلة المرمية بوجه لبنان، مع تهديدات برفع دعاوى قضائية للحجز على أملاك الدولة.ماذا حصل بعد سنة وشهر على إعلان التوقّف عن الدفع؟ يقول أحد الوزراء إنّه قبل تحوّل الحكومة إلى تصريف الأعمال «فاوضنا الدائنين، بحضور المستشارَين القانوني «كليري غوتليب» والمالي «لازار». عُلّقت كلّ الاجتماعات منذ استقالة الحكومة». ولكن ما الذي أنجزته المفاوضات حتى الآن؟ يُجيب مُستشار اقتصادي سابق عَمِل على ملفّ «اليوروبوندز» أنّه «لم يُعقد إلّا اجتماعَان، آخرهما في تموز 2020، وقد اشترط الدائنون بدء تنفيذ برنامج مع صندوق النقد الدولي قبل الاتفاق معهم». حَصَل ذلك بعدما أجرى حملة السندات الأجانب تحقيقات سرّية لمحاولة إثبات عدم استقلالية مصرف لبنان عن الدولة، ما يُمكّنهم من ربح دعاوى حجز على أملاك «المركزي» في الخارج، من دون أن يتمكّنوا من إثبات الصلة.
لم يتمكّن الدائنون الأجانب من إثبات الصلة بين الدولة ومصرف لبنان


يُضمّ ملفّ ديون الدولة بالعملة الأجنبية إلى غيره من المواضيع المُرحّلة إلى حين تأليف حكومة جديدة، ولكنّ الموضوع لا يزال محطّ نقاش بين الخبراء والمعنيّين به، كالطرح الذي تقدّم به قبل أيام الوزير السابق، المحامي كميل أبو سليمان. شرح الأخير في حديث إلى قناة «أن بي أن» كيف أنّ أسعار «اليوروبوندز» في الأسواق الثانوية (يُعلن عن إصدار السندات وبيعها في السوق الأولية، ولكن يحقّ لمن يشتريها أن يتداول بها بيعاً وشراءً في الأسواق الثانوية) لا تتعدّى الـ 13% من أصلها (السند الذي أصدرته الدولة اللبنانية وقبضت لقاءً له دَيناً بـ 100 دولار، يُباع اليوم بأقل من 13 دولاراً)، لذلك «الأجدى بالحكومة ومصرف لبنان أن يُفكّرا بتحضير وإطلاق عرض عام لشرائها أو قسمٍ منها بسعرٍ لا يتعدّى 15 سنتاً. إذا تمّت هذه العملية، يُمكننا إطفاء جزء كبير من الدّين الخارجي وتحقيق وفر طائل». عملياً، هذا الاقتراح يؤدي إلى تسديد الدين بالدولار، لكن بعد اقتطاع 85 في المئة منه.
سريعاً، أطلّ رئيس قسم الأبحاث المالية والاقتصادية في بنك بيبلوس، نسيب غبريل، قائلاً لموقع «المركزية» إنّه «لا يجوز شراء السند بـ 15 سنتاً بل بـ 60% من قيمته»، مُبرّراً بأنّ «الشراء على أساس 15 سنتاً لا يصبّ في مصلحة المودع إطلاقاً». ولكنّ غبريل نسِي أن يُوضح أن دفع كامل قيمة السندات لن يُعيد للمودعين أموالهم (قيمة السندات التي تحملها المصارف أقل من 10 مليارات دولار، فيما الودائع المطلوبة من المصارف تزيد على 100 مليار دولار).
يسأل أبو سليمان، في حديث مع «الأخبار»: «كيف تدفع الدولة 60% من قيمة السند إذا كان يُتداول به حالياً بـ 13%؟ نفهم أن تُدفع علاوة صغيرة فوق سعر السوق، ولكن أكيد ليس بنسبة 300%». وفي الأصل، إذا طُبِّق اقتراح أبو سليمان، فسيكون خياراً طوعياً: «نُطلق عرض شراء عام، الدائن الذي لا يُعجبه العرض لا يبيع. ولكن العديد من الأجانب الذين يتداولون بالسندات أبدوا استعدادهم للبيع». يُدافع أبو سليمان عن طرحه بأنّ «شروط العقد تسمح للدولة بإعادة شراء السندات، ولن نجد أفضل من هذا العرض لتسديد أصل السند والفوائد، بقيمة 13 سنتاً مقابل كل دولار، لأنّه إذا تألّفت حكومة جديدة وعُقد اتفاق مع صندوق النقد، فالأسعار سترتفع من جديد».
بعيداً عن مصالح «حزب المصرف»، ما مدى قابلية تطبيق طرح أبو سليمان؟
33 مليار دولار هو حجم «اليوروبوندز» حالياً مع فوائدها، «من الناحية الحسابية، الطرح جيّد للتخلّص من جزء من الديون، بعدما تناقصت حصّتها السوقية، وبات يُمكن بمليار دولار شراء سندات بقيمة 6.6 مليارات دولار»، يقول مستشار اقتصادي عمل طويلاً في إحدى الوزارات. ولكن شراء السندات لو تمّ، سيكون بالدولار المُتبقي لدى مصرف لبنان الذي يُخصّص جزء منه لتمويل استيراد المواد الرئيسية، «فما هي أفضل طريقة لاستخدام هذه الدولارات؟ حماية ما تبقى من العملة الوطنية وتأمين حاجات السكّان، أم تسديد جزء من الدين؟».
لا يعتقد الوزير السابق عادل أفيوني بأنّ الطرح يُشكّل حلّاً كلّياً لمشكلة الديون الخارجية. أولاً، «سيتوجّب علينا دفع 20 أو 25% للسند، لأنّ قلّة ستوافق على البيع بحسب أسعار السوق الحالية». ثانياً، لم تُرفع أيّ دعوى قضائية ضدّ لبنان «والأسواق مُتجاهلة لسنداتنا، يعني أنّنا لسنا تحت ضغط يفرض علينا إعادة شرائها، وخاصة أنّنا لا نملك الدولارات الكافية، ولو أنّه، في المبدأ، من المُفيد أن نُخلّص البلد جزئياً من عبء الدين». ما يجب فعله، بحسب أفيوني، التفاوض مع كلّ الأطراف «لإعادة هيكلة الديون بما يؤدّي إلى تأجيل الدفعات أقصى ما يُمكن».

اقتراح أبو سليمان يعني تسديد الدّين بالدولار، لكن بعد اقتطاع 85 في المئة منه


يرى أبو سليمان أنّ النقاش حول مصدر الدولارات التي يمكن تخصيصها لشراء السندات «عادل ومنطقي»، ولو أنّه يعتقد بأنّ الطرح سيوفّر الكثير مُستقبلاً، لذلك طرح أيضاً إمكانية «البحث عن وسائل تمويل أخرى». ولكن يُتّهم أبو سليمان من قبل مسؤولين وخبراء ماليين بأنّه يُقدّم طرحاً يصبّ في مصلحة الدائنين لتأمين ربح مُعيّن لهم بعدما تراجعت أسعار السندات، و«يشتري» بهذه الطريقة دعم قوى مُعينة في معركة تسويقه لحاكمية مصرف لبنان. «ليس لديّ غايات شخصية ولا أي طموح سياسي أو تبوّء مسؤوليات، ولم أسمع بهذا الكلام من قبل»، يردّ أبو سليمان، ساخراً من فكرة أنّ شراء السند بـ 13 سنتاً يُفيد الدائنين.
موافقة بعض الدائنين على البيع لا تعني أنّ العرض سيكون مُغرياً لآخرين، وتحديداً صناديق «اشمور» و«بلاك روك» و«فيديلتي» الاستثمارية التي تستغل ظروف البلدان الناشئة لشراء سنداتها بأسعار مُنخفضة، مراهنةً على أنّ الأسعار ستنتعش. قَبلت هذه الصناديق المخاطر مُسبقاً، والتي لا تُثقل محفظتها بشكل وازن، فلماذا ستوافق على البيع؟ وفي الإطار عينه، يقول رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية ــــ الأميركية في بيروت، غسّان ديبة إنّ «التوقف عن الدفع، وإعادة هيكلة الدين لا تُحلّ بإعادة الشراء، فالدائنون لن يبيعوا قبل تغيّرات في المشهد تُعيد رفع أسعار السندات». يرى أنّ «الحلّ غير سيئ، لكنّه جزئي، في حين يجب أن يُشكّل جزءاً من النظرة للاقتصاد الكلّي، وما هي أولويات الدولة الاجتماعية ــــ الاقتصادية، لمعرفة كيفيّة إدارة الكتلة النقديّة بالدولار في هذه الظروف».



الدعوى لحجز أصول مصرف لبنان... خاسرة
هل يُمكن لحملة السندات الحجز على أملاك وأموال مصرف لبنان في الخارج؟ يُجيب الوزير السابق كميل أبو سليمان بأنّ القانونَين الأميركي والبريطاني واضحَين لجهة «عدم الحجز احتياطياً على ممتلكات الدولة أو مصرف لبنان قبل صدور حكم نهائي. ولا يُمكن الحجز على موجودات البنوك المركزية في العالم لتسديد ديون». قد يُجرّب دائنون إثبات عدم استقلالية مصرف لبنان عن الدولة، واستخدام حجّة تمويله مصاريفها وجزءاً من الاستيراد، «هذا الخطر محدود لأنّ الحجّة ضعيفة. عادةً، أصول البنوك المركزية تتمتّع بحصانة تجاه ديون الدولة». الحالة التي يُمكن فيها الحجز على أصول البنوك المركزية هي إذا كانت تحمل أموالاً خاصّة بالدولة، «ولكن في حالة لبنان، كلّ الأصول والأموال لدى المصارف المراسلة هي باسم البنك المركزي (وهي في الأصل أموال المودعين)، أما الدولة فلا تملك أي أصول في الخارج». المُطالعة نفسها التي يُقدّمها أبو سليمان، كان قد قدّمها المستشار القانوني للحكومة «كليري غوتليب» العام الماضي، فطمأن إلى عدم ربح الدائنين أي دعوى يرفعونها ضدّ الدولة أمام المحاكم الأجنبية.
وقد يُحجز على أموال مصرف لبنان «إذا كان مُقترضاً من طرف ما ولم يُسدّد الدين، ولأنّ العقود في هذه الحالة تنص على التنازل عن الحصانة قبل الحُكم، يُمكن الحجز على أصوله. لست على علم بوجود قضية كهذه لدى مصرف لبنان»، يقول أبو سليمان. ويُضيف أنّه في موضوع سندات «اليوروبوندز» لدى الدولة اللبنانية، «لم تنصّ العقود على التنازل عن الحصانة قبل صدور الأحكام القضائية».



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا