قبل سنوات، كان «أبو حسين» يُردّد أمام قاصديه القلّة أن مهنته «النادرة» في تصليح «بوابير» الكاز تتجه إلى الاندثار. كان ذلك قبل الأزمة الراهنة التي أعادت الى «بابور» الكاز «ألقه».قبل أيام، فارق محمد حسين غازي الحياة عن 85 عاماً، مع عودة «تدفق» أبناء طرابلس إلى دكانه الصغير لتصليح «بوابيرهم» المنسيّة. فمع أزمة المحروقات وشبح الانقطاع الكلي للتيار الكهربائي، لم يبقَ أمام كثيرين إلا العودة إلى «الجذور» وإعادة «تأهيل» البوابير التي أهملوها منذ أن أخذت «القازانات» وأفران الغاز دورها وأحالتها الى التقاعد.
في الزمن الحرج، خسر أهالي طرابلس الرجل الثمانيني المشهود له بحبه للمهنة. أكثر من 65 عاماً أمضاها «أبو حسين» في دكانه المتواضع في زقاق «المرستان»، في باب الحديد، يصلح بوابير الكاز والقناديل، وفي السنوات الأخيرة النراجيل.
لطالما استذكر غازي، أمام زائريه، بداياته في هذه المهنة، وكرّر مراراً أنه ما كان ليختار عملاً آخر لو عاد به الزمن الى الوراء، رغم «قلة الشغل» التي دفعته إلى الاعتماد على تصليح الأراكيل مقابل مبالغ زهيدة تُراوح بين خمسة آلاف ليرة و20 ألفاً. «رغم أن هالشغلة لم تجلب لي إلا الفقر، لكنها أغنتني بمحبة الناس»، كان يقول بثقة.
في دكانه كان إبريق الشاي جاهزاً دوماً. وكان يُسهب في الحديث عن زعماء ضاقت زوايا محله الصغير بصورهم، متباهياً بانتمائه إلى مدينة لها تاريخ. لذلك اعتبر أن جزءاً من «عمله» هو التعامل مع السياح الذين يزورون المدينة. بسلاسة ومرونة، كان يتموضع أمام عدسات الكاميرات لتصويره، وبكل حماسة كان يجيب عن الأسئلة بوصفه أحد أهم «معالم» الحي التراثي الذي يزيد عمره على 700 عام.
لم يحسب «أبو حسين» أن مهنته، التي لم يورثها لأحد، ستعود مجدداً ضرورةً في مدينة تستغني شيئاً فشيئاً عن الوسائل المتطوّرة في غياب مقوّمات الحياة الأساسية، وتحاول الصمود بما أتيح لها، ولو من «أثريّاتٍ» كـ«البوابير» التي تحوّلت خلال فترة طويلة إلى أدوات ديكور قبل أن يُعاد وضعها في الاستخدام.
ما دأب «أبو حسين» على ترديده، منذ سنوات، على مسامع زائريه عن «انقراض» مهنته يثبت اليوم عدم صحته. مهن كثيرة ساد الاعتقاد بأنها اندثرت يبدو أنها ستستعيد «مجدها».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا