عمليّة بيع أصول الدولة وُضعت على نار حامية. عرّابو المشروع لم يستسلموا، ووجدوا أخيراً وسيلة لخصخصة مرفأ بيروت وتحويله إلى مجرّد صندوق تعويضات عبر تدميره ذاتياً ودفعه إلى التوقف عن العمل. من هذا المنطلق، واستكمالاً لادّعاء المحقق العدلي السابق (في جريمة تفجير المرفأ - 4 آب 2020) القاضي فادي صوان على إدارة واستثمار مرفأ بيروت، تقدّم نقيب المحامين ملحم خلف بدعاوى بالوكالة عن متضرري الانفجار ضد الإدارة، لتقوم القاضية نجاح عيتاني بإصدار قرار حجز احتياطي على الأموال العائدة للمرفأ. كيف يُتَرجَم القرار؟ ببساطة، توقّف كل الوكالات البحرية والشركات عن دفع الرسوم إلى المرفأ والاستعاضة عن ذلك بدفعها إلى صندوق المحكمة. وهو ما سيؤدّي في غضون أسبوع إلى عدم قدرة مرفأ بيروت على دفع المتوجّبات عليه لمصلحة أيّ جهة، مع حجب الأموال عنه
فشلت خطة المصارف في بيع أصول الدولة عبر وضعها في صندوق سيادي مهمته بيع السيادة، فبدأ المنخرطون في هذا المشروع بتنفيذ خطة بديلة تقضي ببيع هذه الأصول بالمفرّق... والبداية من مرفأ بيروت الذي صمد في وجه الانفجار وتابع عمله، إلى أن تمّ تعطيله بالقوة عبر حجب الإيرادات عنه. ففي قرار قضائي صادر بتاريخ 4 آذار 2021، أمرت رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت القاضية نجاح عيتاني بإلقاء الحجز الاحتياطي على الأموال العائدة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت وعلى الأموال العائدة لمن سمّتهم «الأشخاص الثالثين»، أي الشركات المستوردة عبر المرفأ، بالإضافة الى الأموال المحوّلة الى مصلحة الصرفيات في وزارة المالية. بمعنى أوضح، يوجب هذا القرار على كل الوكالات البحرية والمؤسسات والشركات المتعاملة مع مرفأ بيروت (حددت القاضية 21 وكالة بحرية وشركة) التوقف عن دفع رسوم عمل البواخر وشحن البضائع وما يرافقها من تكاليف الى إدارة مرفأ بيروت والاستعاضة عن ذلك بدفعها الى صندوق المحكمة. الحكم الذي أصدرته القاضية عيتاني، جاء استجابة لطلب حجز مقدم من إحدى المتضررات من انفجار مرفأ بيروت نتيجة وفاة زوجها، وبوكالة من نقيب المحامين ملحم خلف و23 محامياً آخرين. أما المبلغ المطالَب به، فهو 2 مليون دولار أميركي والرسوم والمصاريف القانونية المقدّرة بـ200 ألف دولار. وقد تضمنت الدعوى الطلب بإلقاء الحجز على أموال إدارة واستثمار مرفأ بيروت، ممثلة بشخص ممثلها القانوني، إضافة إلى كل من: حسن قريطم، محمد العوف، شفيق مرعي، هاني الحاج شحادة، موسى هزيمة، نعمة البراكس وعبد الحفيظ القيسي. (من غير المعروف سبب اختيار هذه المجموعة من المدّعى عليهم).
كيف جرى تحميل إدارة المرفأ مسؤولية الانفجار، إذا كان تخزين النيترات في العنابر تم بموجب قرار قضائي؟


هي ليست الدعوى الأولى من هذا النوع التي يتقدّم بها نقيب المحامين، إذ سبق له أن تقدم بأخرى مماثلة وتعويض بقيمة 2 مليون دولار أيضاً، بالنيابة عن إحدى المتضررات من انفجار المرفأ بتاريخ 12/12/2020. وقد انضمت الدعوى آنذاك إلى ادعاء النيابة العامة لدى المجلس العدلي ليصدر حكم بالحجز الاحتياطي على أموال المرفأ وإجبار 63 وكالة بحرية وشركة بالدفع الى صندوق المحكمة. ما سبق يتكامل مع القرار الذي أصدره المحقق العدلي السابق في جريمة المرفأ، فادي صوان، بادعائه على إدارة واستثمار مرفأ بيروت بناءً على نص المادة ٢١٠ من قانون العقوبات، المتعلقة بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، والتي من شأنها جعل إدارة واستثمار مرفأ بيروت - كشخص معنوي - مسؤولة جزائياً عن أعمال مديريها وأعضاء إدارتها وممثليها وعمالها، ومسؤولة أيضاً عن الإلزامات المدنية التي قد يحكم بها لمصلحة المتضررين من شركات ملاحة بحرية وشركات تأمين وأصحاب سفن بحرية وأهالي ضحايا ومتضررين في المناطق المجاورة.
هكذا، اتخذ قرار تدمير مرفأ بيروت من الداخل، ووقفه عن العمل لغاية لا يمكن فصلها عمّا يجري من محاولات لخصخصة المرفأ أو بيعه. وذلك يطرح علامات استفهام حول توظيف القضاء والمحامين في خدمة هذا الهدف، واستباق صدور القرار النهائي في هذا الملف.
في الحالتين، استند نقيب المحامين إلى المادتين 866 و881 من قانون أصول المحاكمات المدنية، بحيث تجيز الأولى للدائن أن يطلب من رئيس دائرة التنفيذ الترخيص بإلقاء الحجز الاحتياطي على أموال مدينه تأميناً لدينه، فيما تسمح الثانية لكل دائن بأن يطلب من رئيس دائرة التنفيذ حجز ما لمدينه لدى شخص ثالث من الأموال.

هيئة القضايا لم تتحرّك
غير أن ثمة مشكلة رئيسية هنا، تكمن في عدم تحرّك إدارة مرفأ بيروت، رغم مرور 4 أشهر على الحكم الأول. مصادر الادارة تشير الى أن القرار الصادر في كانون الأول تسبّب في حالة ضياع في المرفأ. فقد حاولت الادارة استئناف القرار عبر محاميها، ليتبين لها أن هيئة القضايا في وزارة العدل، التي تمثل المرفأ، هي المخولة القيام بهذا الإجراء، علماً بأن «لا وجود لمحامين تابعين للإدارة، لكون غالبيتهم خرجوا الى التقاعد، وثمة مكتب واحد للمحاماة متعاقد معنا»، بحسب مصدر في الإدارة. ونتيجة هذا التأخير، «استغل المدّعون ضعف موقف المرفأ، ليرفعوا دعوى ثانية لم نتبلغها بعد، بل قاموا بتبليغ الحكم الى الشركات والوكالات». ويؤكد المصدر أن الشركات الـ63 الواردة في القرار الأول تقوم بتطبيقه بحذافيره، فيما الشركات الـ21 المبلغة أخيراً تلتزم تدريجياً، اذ لم تبلغ كلها بعد.
امتناع 84 وكالة بحرية وشركة عن الدفع سيتسبّب في كارثة في المرفأ الذي لا يزال يملك أموالاً لتسديد أجور المتعهدين والموظفين وغيرهم، لكنه لن يصمد لأسبوع مقبل، خصوصاً أن الشركات المنتقاة تصنَّف جميعها في خانة الشركات الكبيرة، ومن بينها شركات وكالات سيارات باهظة الثمن، وشركات أدوية وشركات شحن وشركات نفطية وشركات تستورد ماركات ثياب عالمية. وهذه الشركات تقوم بدفع رسومها بواسطة شيكات مصرفية بالعملة الأجنبية، علماً بأن ثمة مشروعاً لدفع قسم من الرسوم المرفئية نقداً، لكنه لم يطبَّق بعد، وينتظر آليته التنفيذية.

وزير الأشغال: القرار يوقف عمل المرفأ
من جانبه، يقول وزير الأشغال العامة والنقل ميشال نجار إن هذه القرارات ستؤدي الى صفر إيرادات في المرفأ، ما سيتسبّب في تعطيله وشلّ حركته. واستغرب نجار صدور حكم من هذا النوع من دون الأخذ بعين الاعتبار مدى الضرر الذي سيلحقه بهذا المرفق العام. ويشير الى إرساله كتاباً الى وزارة العدل لتحريك هيئة القضايا باتجاه نقض القرار. فوقف محطة الحاويات التي لا تزال تعمل، رغم الدمار الذي لحق بالمرفأ من جرّاء انفجار 4 آب 2020، يعني وقف كل الأعمال بنسبة 100%.

تستعدّ النقابات العاملة في المرفأ لرفع الصوت واتّخاذ خطوات لوقف خطّة تدمير المرفأ وتعطيله


أما رئيس نقابة موظفي وعمال مرفأ بيروت، رئيس الاتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، فيلفت الى أنه قام بعدة مبادرات تجاه وزيرة العدل ووزير الأشغال ووزير المال، ويفترض أن يكون هذا الأسبوع حاسماً لجهة ما ستؤول اليه الأوضاع. ويربط التأخير في الإقدام على أي إجراء من قبل إدارة المرفأ بعدم أخذ القرار على محمل الجد في البداية، علماً بأن الإدارة «تتحرك اليوم بشكل جدّي». ووفقاً للأسمر، ثمة جريمة ترتكب بحق مرفأ بيروت: «متجهون إلى موقف تصعيدي. فقد اتصلت بكل النقابات من مالكي الشاحنات الى سائقيها الى الوكالات البحرية ومخلّصي البضائع وغيرهم، وأبدوا جميعهم استعدادهم، كما وزير الشغال ومدير عام النقل، للحضور والاعتصام في المرفأ». وسأل كيف يمكن أن يطلب نقيب المحامين حجز أموال مرفق عام؟ وكيف يصدر قرار قضائي بهذا الشأن من دون التفكير بما سيؤدي اليه عمل مماثل؟ ليعقّب بالقول إن«عملية التعويض على المتضررين من انفجار مرفأ بيروت حق مطلق، لكن يفترض انتظار الحكم لتحديد المسؤوليات. جلّ ما يحدث اليوم هو تدمير المرفأ ذاتياً، في ظل طروحات سريعة من الألمان وجهات أخرى بوضع اليد على المرفأ. أما المشكلة الأساسية قبل ذلك كله، فتكمن في عدم تحديد هوية المرفأ وإبقائه تحت إدارة لجنة مؤقتة منذ التسعينيات».
من جهته، يرى رئيس دائرة الملاحة الدولية، إيلي زخور أن عدد المتعهدين الذين تبلغوا القرار القضائي كَبُر وبات معظمهم يدفع الرسوم في المحكمة. هذا الإجراء «يتسبّب في توقف المرفأ عن العمل في غضون الأسبوع المقبل، لعدم قدرته على الدفع». على أن ما لا يفهمه زخور، هو كيف جرى تحميل إدارة المرفأ مسؤولية الانفجار، إذا كان تخزين نيترات الأمونيوم (التي انفجرت يوم 4 آب 2020) في العنابر تم بموجب قرار قضائي؟
حتى الساعة، ما نتج عن الكتب والاتصالات التي قام بها المسؤولون، مجرد وعود بالتحرك واستنكار لما صدر عن القاضية عيتاني، وللمقاربة التي تقدم بها نقيب المحامين ملحم خلف الذي ينوي تقديم ما يفوق 700 دعوى أمام المحقق العدلي ضد إدارة واستثمار مرفأ بيروت، الأمر الذي سيكبّد هذا المرفق عشرات ملايين الدولارات. وهنا ثمة سؤال عمّا دفع القاضية الى المطالبة بتعويض بالدولار، ولماذا حُدّد بمليونين وليس أقل أو أكثر؟ وإذا ما نجح خلف في المضيّ قدماً في هذه الدعاوى، فإن حجز الأموال الخاصة بالمرفأ سيؤدي حكماً الى توقفه عن العمل واستقبال السفن وتحويله من مرفق عام الى صندوق تعويضات، ليس فقط لذوي ضحايا انفجار المرفأ، بل لأي شخص أو مؤسسة ترى نفسها في دائرة المتضررين.



أموال المرفأ غير قابلة للحجز


النقطة الأساس في الدعاوى المرفوعة وفي القرارين القضائيين تكمن في اعتبار المرفأ شخصية معنوية أو كياناً مستقلاً عن الدولة، وبالتالي يمكن حجز أمواله، فيما قرارات سابقة تنقض هذا الاعتبار، وأهمها قرار صادر عن شورى الدولة تحت الرقم 380/2015. ففي معرض مراجعة مقدمة بوجه كل من الدولة ولجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت، اعتبر مجلس الشورى المراجعة موجّهة ضد الدولة اللبنانية، نظراً الى أن اللجنة المذكورة تابعة مباشرة للدولة ولا تتمتع بالشخصية المعنوية المستقلة. وإذا كانت هيئة القضايا هي التي تمثل مرفأ بيروت، فذلك يعني أنه لا يمكن اعتبار المرفأ كياناً يمثل نفسه مثل مؤسسة كهرباء لبنان (على سبيل المثال). وبما أنه لا يجوز إلقاء الحجز على أموال الدولة وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العامة بموجب المادة 860 من أصول المحاكمات المدنية، يعتبر القرار غير قابل للتنفيذ.