في واحد من العقود التي يفترض أن تكون روتينية، نموذج فاقع لما يعنيه انحلال الدولة ومؤسساتها. هدر المال العام على عينك يا تاجر. وقد بدأت القصة عندما أحال مراقب عقد النفقات في وزارة الأشغال عقداً إلى ديوان المحاسبة في 28/10/2020، لإجراء الرقابة الإدارية المسبقة عليه. العقد هو عقد مصالحة لدفع بدل تنظيف وتأهيل شبكات تصريف مياه الأمطار والمجاري الصحية في ضاحية بيروت الشمالية - جونيه حتى كازينو لبنان - طرابلس - دوار أبو علي، للفترة ما بين 1/1/2015 و11/3/2015. تضمن الملف تقريراً وضعته لجنة المتابعة التي شكّلت في الوزارة، والمؤلفة من المهندسين عصام العبدالله وحسين بوصالح، للإشراف على الأعمال المنجزة من قبل المتعهد «مكتب حميد كيروز».
(مروان طحطح)

المكتب المذكور كُلّف شفهياً من قبل وزير الاشغال، ثم تم تأكيد التكليف بموافقة مبدئية من الوزارة وُقّعت بتاريخ 2/7/2015، بعد أن طلب المكتب تسديد مستحقاته وفقاً لجدول أعمال منفذة موقّع منه ومن عضوي لجنة المتابعة. يتبيّن في ذلك المستند، الذي أرسلت نسخة منه إلى رئيس مصلحة الصيانة في الوزارة، أن كلفة الأشغال بلغت ملياراً و249 مليون ليرة، نزّلت بنسبة 20 في المئة لتصل إلى 999 مليون ليرة. لكن ما لفت الانتباه سريعاً، وقبل الدخول في تفاصيل الأرقام، أن التقرير المقدّم إلى الديوان لا يتضمن محاضر تسلم أشغال، فضلاً عن أن الجدول المرفق بالمعاملة يشير إلى تنفيذ 162 مهمة أثناء أيام سقوط الأمطار و124 مهمة طوارئ خارج أيام سقوط الأمطار، علماً بأن مجموع أيام العقد هو 70 يوماً فقط، فمن أين أتت الأيام الـ162؟
ذلك استدعى عقد الديوان، في كانون الأول الماضي، جلستين استيضاحيتين مع الإدارة المعنية، حيث عمد العبدالله، في 14/12/2020، إلى إيداع مستندات جديدة يبين فيها حقيقة الرقم 162 الوارد في التقرير، فأشار إلى أن عدد أيام مهمات الطوارئ خلال هطول الأمطار هو 27 يوماً، عملت خلالها سبعة فرق عمل، ما مجموعه 189 يوم عمل للفرق كافة. على افتراض أن وجود فرق عديدة للعمل قد يبرر تسجيل 162 يوم عمل، فلماذا أصبح عدد الأيام 189 يوماً؟ ثم إذا كان المستندان موقّعين من الجهات المعنية حسب الأصول، فأي رقم هو الصحيح؟
هكذا ببساطة صار لدى الديوان نسختان مختلفتان في المضمون للمستندات نفسها، النسخة الأولى قدمت في تشرين الأول 2020 والنسخة الثانية قدمت في كانون الأول 2020. وليزيد الالتباس، حتى في الشكل لم تراع الأصول. فبعدما ورد طلب المتعهد تسديد مستحقاته في المرة الأولى على ورقة رسمية تتضمن اسمه وعنوانه إضافة إلى جدول بالأعمال، كانت النسخة الثانية من الطلب مكتوبة على ورقة بيضاء غير رسمية، كما أنها تتضمن جدولاً بأعمال مختلفة وبتكاليف أخرى وبوحدة قياس مختلفة. الثابت الوحيد بين المستندين، وهو ما يزيد الريبة، عدم تضمنّهما أي تاريخ إصدار، وتوقيعهما من قبل عضوي اللجنة المكلّفة بمراقبة الإشراف على العقد وممثل المتعهد، بالرغم من اختلاف الأرقام والأشغال، وكذلك تسجيلهما في الوزارة بالتاريخ نفسه ورقم المعاملة نفسه!
وفي التفاصيل، يشير المستند الأول إلى تنفيذ 162 مهمة أثناء سقوط المطر بكلفة يومية تبلغ ستة ملايين ليرة، وبكلفة إجمالية تبلغ 972 مليون ليرة. أما المستند الثاني، فيبيّن أن ما أنجز هو 189 يوم عمل، بقيمة إجمالية تصل إلى مليار و134 مليون ليرة.
تجدر الإشارة إلى أن دفتر شروط العقد يحدد كلفة الأعمال كالتالي: أثناء سقوط الأمطار تكون الكلفة ستة ملايين ليرة يومياً (24 ساعة)، وأثناء مهمات الطوارئ يكون العمل وفق المهمة، بكلفة مليون و200 ألف ليرة للمهمة.
مستندات متناقضة لعقد واحد وبفارق 200 مليون ليرة


الاختلاف في البيانات يطال أيضاً مهمّة «تنظيف وتعزيل وتكنيس الطرق أو الاوتوستراد». في المستند الأول، أشير إلى أن العمل كلّف 128 مليون ليرة، وفي المستند الثاني كلف 110 ملايين ليرة.
وأكثر من ذلك، تبدو كل تفاصيل الأشغال المنفّذة مختلفة بين المستندات الأولى والثانية، والموقّعة من عضوي لجنة الإشراف والمتعهد. فعلى سبيل المثال، يتبيّن في أحد المستندات أنه تم تنفيذ 78 مهمة أثناء سقوط الأمطار في شهر شباط، فيما يشير المستند الذي وصل إلى الديوان في الملف الثاني إلى أنه تم تنفيذ 91 مهمة، علماً بأن الفارق يعود إلى تعديل عدد مناطق العمل؛ فبعدما كانت في التقرير الأول ستة محاور، تحوّلت في المستند الثاني إلى سبعة محاور.
وعلى سبيل المثال، يتبيّن في المستند الخاص بشهر كانون الثاني أن عدد المهمات التي أنجزت في اليوم الأول من العام كان ثلاث مهمات، بينما في المستند الثاني صار صفراً. أما مجموع المهام المنجزة خلال هذا الشهر، فتختلف بين 59 مهمة خارج أيام سقوط الأمطار في المستند الاساسي و13 في المستند الجديد.

كان يمكن المتعهد أن يحصل على مليار ليرة غير مستحقة


أيهما الأصح؟ لا أحد يملك الإجابة، لسبب بسيط، هو أنه لم يتم تسلم الأشغال في حينها بحسب الأصول. الحجة في ذلك، بحسب كتاب موجّه من وزير الأشغال الحالي إلى الديوان، في 30/12/2020، أن دفتر شروط عقد المصالحة لا يتضمّن شرط إجراء تسلم مؤقت أو نهائي، وبالتالي تم تنظيم العقد بناءً على كشوفات بالأشغال المؤقتة. وهذا يعني أنه نظراً إلى طبيعة الأشغال، سيستحيل تنظيم محضر تسلم لاحق، وبما أن كشوفات الأشغال المنجزة متناقضة ومختلفة، فإنه يصعب تحديد المبالغ الفعلية الواجبة.
في المحصلة، تبيّن لديوان المحاسبة أن طريقة الاحتساب تلك قد أدّت إلى أضرار كبيرة بالأموال العمومية، حيث تراوح هذه الخسارة في المال العام بين 710 ملايين ليرة إذا اعتمد المستند الأول و872 مليون ليرة إذ اعتمد المستند الثاني، أي بمعدل وسطي يبلغ 791 مليون ليرة. وهذا يساوي نحو 80 في المئة من قيمة العقد. وبذلك، بدلاً من حصول المتعهد على 200 مليون ليرة عن 70 يوم عمل، كان يمكن أن يحصل على مليار ليرة غير مستحقة. من كان سيحصل على الفارق ومن هم المتورطون في الملف؟ هذا ما سيبيّنه التحقيق القضائي الذي قرر ديوان المحاسبة إجراؤه؛ إذ بعدما رفضت الغرفة المؤلفة من القاضي عبد الرضى ناصر وعضوية المستشارين محمد الحاج وجوزف الكسرواني، بموجب الرقابة الإدارية المسبقة، الموافقة على العقد، أحالت المعاملة إلى الغرفة القضائية المختصة لإجراء التحقيقات اللازمة واتخاذ الإجراءات والتدابير المقررة قانوناً. كما أقرّت توصية للإدارات لاتباعها في الحالات المشابهة. وقد صدّق رئيس الديوان القاضي محمد بدران القرار وأحاله في 11/3/2021، إلى المراجع المختصة.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا