خلال 48 ساعة، تابع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون شؤون المرفأ واعماره مفترضاً ازدهاراً اقتصادياً، وان حركة البضائع قائمة على قدم وساق. وشن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع هجوما على وزير الصحة وملف الكهرباء. واعلن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، في فيلم الاحد الطويل، مطالعة سياسية كأنه امام جمهور اوروبي اقصى مطالبه تسريع فك الحجر وحجز عطل الصيف بعد ازمة كورونا. وجيّش قائد الجيش العماد جوزف عون فريقه للرد اعلامياً على الانتقادات التي طاولت مؤتمره الصحافي الذي اعلن فيه دخوله نادي المرشحين للرئاسة. وأرفق البطريرك الماروني ماربشارة بطرس الراعي حملة الدفاع عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بحملة دفاع مماثلة عن قائد الجيش. وسط كل الانهيار المالي، اي كلام سياسي من هذا النوع يمكن بعد الركون اليه، حين يكون ايضاً الرئيس المكلف سعد الحريري متفرجاً، وحين يُسمح لحاكم مصرف لبنان بالخروج من بيروت، بحماية سياسية وعسكرية ودينية، فيما يفترض ان يحُاكم مع كل المدافعين عنه، وحين يبارك الرئيس نبيه بري وحزب الله صفقة سلفة الكهرباء في مجلس النواب، بذريعة سحب بعض فتائل التوتر من الشارع.في المقابل، وفي 48 ساعة، كانت مشاهد الذل تتكرر. شاب في سوبرماكت، يقترب من الصندوق، يسأل عن بضائع ليعرف اسعارها الحقيقية، نتيجة ارتفاع سعر الدولار، ثم يعيدها الى الرف، ويعاود الكرّة مع بضائع اخرى لا يشتري منها شيئاً.
مئات النماذج في ساعات قليلة لم يعد فيها مشهد السوبرماركت والمحال التجارية مدعاة للسخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، لأن من قصدها وجد اناسا يحكون مع انفسهم، يصرخون ويفقدون اعصابهم. ومع كل هذه المشاهد، ثمة سؤالان يترددان منذ انتهاء مفاعيل 17 تشرين. الأول: ما الذي يقف وراء ترك الامور تنهار الى هذا الحد، خصوصا ان اداء اركان السلطة والقوى السياسية في الساعات الاخيرة لا علاقة له بحقيقة ما يعيشه معظم اللبنانيين، وهل المطلوب خارجياً انهيار وانفجار تامان حتى ينبثق حل ما من السخونة المرجوة، او من تنازل فريق سياسي هو بوضوح حزب الله، كي يبرم الحل؟ والسؤال الثاني: لماذا لا يتحرك اللبنانيون في الشكل الذي يفترض ان يتحركوا به، ولماذا تقتصر اعتراضاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى نكات سخيفة عن ارتفاع الدولار وانهيار اوضاعهم؟
لا يمكن بعد تلمس اي جواب عن مستوى تجاهل كل القوى السياسية لأيّ من ادوات الحل، فيما تتضاعف الضغوط الغربية على كل المستويات، وآخرها من بريطانيا أمس. فاذا كان الهدف تطويع حزب الله، فان من مصلحة الحزب اختراع اي مخرج يمكن من خلاله سد الفجوة الحالية. وغض الحزب النظر عن التدهور الحاصل في هذا الشكل، مهما ساهم في تأمين متطلبات شارعه، لا يكفي للتعويض على حجم الخسائر من جراء انهيار سعر الليرة، على كافة المستويات والمناطق. الا اذا كانت القوى السياسية مدركة ان الرهان على لحظة تشرين ثانية، رغم ما يجري، لن يتكرر.
فمنذ تشرين الاول 2019، وقبل اشتداد الازمة المالية، نقل اقتصاديون قولا لسلامة انه سيزيد من ضغطه طالما انه قادر على ذلك. بدت معركته حينها شخصية وأقرب الى الانتقام من الحملات ضده ومن خروجه من حلقة المرشحين للرئاسة. وجد سلامة عضدا من السياسيين، لكنه ايضا وجده في الانقسام في الشارع، بعدما خذل المنتفضون ثورة فتيان المصارف. وبعدما حصل الانفصام التام بين من يثور حقيقة ومن يدعي الثورة، ومن كان يحمل اعلام الثورة في وسط بيروت، ويدافع عن حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف، ومن كان يحشد الطاقات والشعارات، وهو الان خارج لبنان، يفيض تغريدات عن الصمود في وجه السلطة الحاكمة. مَن هو رافض في الساحات والإعلام لكل المنظومة السياسية، لكنه في الوقت نفسه، يوالي احدى الجهات السياسية في لبنان والخارج، ويتمتع برواتب من الخارج بالدولار، ومَن يحوّل ثورته ضد حزب الله ورئيس الجمهورية وحدهما. منذ لحظة تشرين، استفاد سلامة اكثر من اي وقت مضى، ومعه الاحزاب السياسية، بعدما ظهر تدريجا اتجاه لشد عصبها وسحب الناس اليها، فتضيع الشريحة التي كانت فعلا عصب الثورة الحقيقية، ليصبح اللبنانيون امام نماذج فاقعة عن الارتهان الحزبي والسياسي. تماماً كما حصل الاسبوع الماضي ويحصل يوميا، مع تضاعف ارتداد الناس الى القوى السياسية (مساعدات، منح، فحوصات طبية، تأمين لقاحات...) كمصدر قوة وسند في اوقات الازمات، وهي ظاهرة تسعى الاحزاب الى ترسيخها تدريجا، بعد افول الاصوات غير الحزبية، تحت ضغط امساك القوى السياسية بمفاصل السلطة والمال. في مقابل ظهور شرائح جديدة في مجتمعات تفيض بالتناقضات، فيتحول لبنان، اكثر من اي وقت مضى، شبيها بدول أوروبية او لاتينية أو افريقية أو آسيوية، كتب عنها الكثير من الروايات والتحقيقات الصحافية عن المستفيدين من اللعب باسعار العملات ومن الثروات ومن الفساد، فيما تقبع الاف العائلات في عوز. فمشهد استبداد المصارف بالمودعين واهالي الطلاب في الخارج، وعجقة التزلج في كفرذبيان والارز وفاريا والزعرور وفقرا، نموذج فاقع يقابله استمرار حركة السفر الى حيث تسمح دول باستقبال المسافرين، ومشهد تلقيح النواب بغير حق، لا يمكن الا ان يحصل في مثل تلك الدول التي تنتظر ان يتحدث الاعلام الغربي عن انهيارها، وكأنه فيلم دعائي ترويجي. مثله مثل نموذج هجرة الاطباء، (وهي تختلف جذريا عن هجرة الممرضين نتيجة الاجحاف المزمن في حقهم) الذين استفاد جزء (ولو ضئيل) منهم من سنوات العيش من تسعيرات خيالية، وتخلى هذا الجزء تحديداً عن مرضاه عند اشتداد الازمات، في مقابل بقاء اطباء فاعلين وحقيقيين على المستوى الانساني، رغم كل ما يطالهم من ضائقة اقتصادية.
في المحصلة، لا احد يعرف اللبنانيين اكثر من السياسيين والمصرفيين، وجميعهم لا يزالون مطمئنين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا