أن تكون لبنانياً، يعني أن تمشي يومياً عاري الصدر بين مجموعة من القتلة، لا يملكون حتى لياقة إخفاء خناجرهم الملطّخة بالدماء أمام ضحيتهم. أن تكون لبنانياً، يعني أن يُداويك القتلة، بعدما أمرضوك، بطعنة، وأن يسقوك، بعدما أعطشوك، كأساً من السم. أن تكون لبنانياً، يعني أن تبيعَ أنت الخنجر لقاتليك، وتفرح عندما يعطونك بقشيشاً من مالك الذي سرقوه. أن تكون لبنانياً، يعني أن تكون رعيةً مسجونةً في هيكل رثّ خبيث بائس، وأن تحنيَ رأسك عندما يمرّ أمامك كهنة المعبد القتلة لتبارك خناجرهم آلهة الهيكل وسعادة مجرمه الأكبر: رياض سلامة. هذا الذي أحال أرضنا جحيماً تتنازعها ألسنة الفقر والجوع والعَوَز. القابع على عرشه المرصّع بدموع الضحايا، والماثلة تحته سبع سماوات من المصارف. الربّ الذي يعبده الكهنة؛ كهنة المال، وكهنة العدالة، وكهنة الإعلام، وكهنة الاحتكار، وكهنة الدواء. حتى كهنة الله تركوا الله وسجدوا له.هو ذلك الممسك بصولجان الاعتمادات التي يفتحها كيف يشاء لمن يشاء متى يشاء. فهو الذي يقرر إن كان الدواء الذي يحتاج إليه قلب والدتك ضرورياً أم لا، وهو من يستطيع أن يصنّف رغيف الخبز الذي تتوسّله أمعاء أطفالك ترفاً. هو الممسك بخيوط القدر التي عقدها على أعناق خناجره الوسيطة يحرّكها كما أراد، لتذبح أمامنا كل أشباح الأمل، حتى ولو كان كاذباً. ووسائطه هذه تبدأ على مستوى دمىً في وزارات اقتصاد ومالية ومدّعين عامين جبناء، وتصل إلى جيوش من أحزاب وتيارات وحركات ومنظمات وجمعيات كلها تتسابق على تقديم فروض طاعة. لا بل قد تصل أيضاً إلى صروح تاريخية سرقت مجد لبنان من جثث شهدائه، وإلى مجالس تمثيلية تجثو بالإجماع على ركبتيها في معبده الذي سيّجته خطوط حمر لوّنتها دماء القتلى. هو تلك الابتسامة السادية التي تخفي خلفها حقداً يلعن مطعوناً تأوّه في وجهها من الألم. هو الذي لا آلهة مجرمةً في هذا الهيكل إلا هو.
أن ترى الدُّنيا سواداً قاتماً، وأن ترى واقعك بهذه الظلامية، أمر لا يحدث صدفة. حتى حالة البلاد المُفجعة لا تكفي وحدها لكي ترفع عنك غشاء السذاجة الذي أرخته على عينيك هذه الثلّة من السفلة. وحدها طعنة هذا الخنجر في صدرك تجعلك تستفيق على محيطك، وتعطيك القدرة لتبصر أشباح هؤلاء تتربّص لك عند كل مفترق. في حالتي، كان صدر أبي موضع الطعنة.
مرّ الآن أسبوعان على تجاوز المحنة، وها هو عاد اليوم إلى عيادته يضمّد صدور الضحايا. ولكن، لا يمكن وصف ما مرّ به على مدى شهر إلا بمحاولة قتل. بعد أن تسلّلت إلى رئتَيه يدا الوباء الحميد (مقارنة بخبث سرطان الهيكل)، كانت محاولة الكهنة الأولى عندما علمنا بأن لا مكان في المستشفيات لأبي الذي بدأت معدلات الأوكسيجين لديه تنخفض شيئاً فشيئاً. استطعنا تأمين آلة الأوكسيجين في المنزل. ولم تستسلم خناجر رياض سلامة. وصف الطبيب لأبي حقناً من مسيّل الدم، ولكن تبيّن أنه «مقطوع» في السوق. ومن دون المسيّل، قد تخسر المريض في لحظة. هكذا قرّر كهنة سلامة أن هذه مخاطرة لا بأس بخوضها. مخاطرة أخمدتها قدرتنا على تأمين الحقن «على الطريقة اللبنانية».
بعد أسبوعين من المعاناة التي كان أغلبها ذا طابع نفسي، وبعد أن ظننا بسذاجة أننا نجحنا في الذود عن صدر أبي ضد طعنات الهيكل المتلاحقة، تبيّن لنا أن خناجر سلامة لم تستسلم بعد. واحدة من مضاعفات مرض العصر، تمثّلت بالتهاب في صدره سبّبته بكتيريا فاتكة تجعلك تظن لوهلة أن القدر تحالف مع الخنجر. استطعنا هذه المرة أن ندخل المستشفى لأن أبي لم يعد بحاجة إلى سرير في قسم الكورونا. طلب الطبيب صورة شعاعية، لم يكن المستشفى قادراً على إجرائها لأن الآلة معطّلة، ولأن رياض سلامة لم يفتح لمستوردي الأجهزة الطبية الباب لجنّة اعتماداته. وصف الطبيب مضاداً حيوياً تبيّن أنه «مقطوع» لأن رياض سلامة لم يفتح اعتمادات للشركة المستوردة (على الهامش، ربما يعتقد أفضل حاكم مصرف مركزي في المجرة أن حاجة أهلنا في الكويت والإمارات إلى جبنتنا المدعومة أولى بفتح الاعتمادات). طبعاً، تجاوزنا كل المطبّات التي وضعها رياض سلامة في طريق نجاة أبي أيضاً «على الطريقة اللبنانية» (قلبي مع أولئك الذين يموتون يومياً لأنهم لا يمتلكون مصابيح تنير دهاليز هذه الطريقة، وفؤوساً تكسر أبوابها).
نجا أبي، لحدّ اللحظة، ولكن علقت في ذهني مشاهد لا أعتقد أنني سأستطيع التخلص منها قريباً. أذكر أنني سألت الطبيب المعالج (وهو أستاذي في الكلية)، سؤالاً أعلم كطالب طب أنه لا يجوز أن يُسأَل لطبيب: «في شي بخوّف؟». وأذكر أن الصمت على الجهة المقابلة من الهاتف كان أكثر ما يخيف. أذكر أنني كنت أراقب يومياً عدد الوفيات وأحدّث نفسي بأن دموع عائلاتهم لم تعد تعني لي سوى سرير يشغر الآن لأبي إذا ما احتاج إليه، وكيف أن هذا الهيكل يجعلك تظن أن دموع ضحاياه قد تحول دون دموعك. أذكر أنني كنت أتجوّل في أروقة المستشفى عند منتصف الليل لأتأمّل في أبواب غرفه، وأذكر كيف باغتتني فكرة أن خنجر رياض سلامة قد مرّ على صدور كل هؤلاء النائمين خلف الأبواب الموصدة. أذكر أنني عندما خرجت من المستشفى، بدأت أتجوّل في الشوارع التي رأيتها مليئة بمن تنزف قلوبهم، وقد أحاطهم جمع من الكهنة الذين يجمعون الدماء في أكواب زخرفتها مقل عيون أمّهاتنا.
في المشهد الأخير، ها أنا أسترق النظر من خلف باب غرفتي على وجه أبي، وقد لاحت عليه معالم الانتصار في المعركة. عبثاً أحاول أن أحبس دمعتي التي نزلت لتخبرني ما كنت أعلمه وأتجاهل مواجهته: هذه ليست سوى معركة في حرب، وخناجر آلهة الهيكل لا تستسلم، خاصة لمن يعاندها. أبي الذي انتصر اليوم، ليس إلا جزءاً من واقع إذا وسّعت رقعة النظر إليه، ستجد مئات ممن تتلقّى صدورهم الطعنات وأنا أكتب هذه السطور الآن، في الوقت الذي أظل فيه عاجزاً عن مجاراة تلك الابتسامة، غير قادر على إشاحة ناظرَيَّ عن شبح رياض سلامة وهو يبتسم، ممسكاً خنجره خلف ظهره، متربّصاً بين كهنته، ومنتظراً للحظة ألتهي فيها بمجاراة ابتسامة أبي، لكي يحاول قتله مجدّداً.

*طالب طبّ في جامعة بيروت العربية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا