للوهلة الأولى، قد يأخذ سوء الظنّ المستمع إلى خطاب قائد الجيش، أول من أمس، إلى توهّم أنه أمام الجنرال كنعان إيفرِن عام 1980، لا الجنرال جوزف عون عام 2021. فجر الانقلاب الدموي الذي قاده رئيس الأركان في تركيا قبل 41 عاماً، نشر في الصحف البيان الذي أسّس فيه لاستيلائه على السلطة. كذلك فعل عون، أول من أمس، إذ مهّد عبر وسائل إعلامية لموقف «مهمّ» سيصدر عنه. لكن سوء الظن سرعان ما سيبدّده واقع الحال. فلا الجيش هنا هو الجيش هناك، ولا البلاد هي البلاد، ولا جوزف عون هو «الباشا». الإمبراطورية الأميركية التي غطّت عصبة المنقلبين ودعمتهم، لضمان الدور التركي المحوري في حلف الناتو، تسعى جاهدة للهيمنة على الجيش اللبناني وقراره، من دون أن تخفي نياتها. لكن أميركا ليست ــــ في لبنان ــــ أميركا نفسها التي كانت في تركيا القرن الماضي.تبقى لهجة الخطاب مدعاةً لسوء الظن (وهو، على ما قال الأقدمون، من أقوى الفِطَن ومِن حُسنِها). أراد جوزف عون، بلغة انقلابية، إعلان ترشحه لرئاسة الجهورية بما لا يقبل أيّ لُبس. وهذا الترشح ليس على طريقة من سبقوه إلى بعبدا من اليرزة. كان هؤلاء يُقدَّمون كمرشّحي تسوية، كرؤساء «فوق الانقسامات». أما جوزف عون، فشاء أن يُصوّر نفسه «ثائراً» على السلطة، خارجاً عليها لا على انقساماتها. فهو لم يقل إنه سيمنع تدخّل القوى السياسية في الجيش، بل ذهب أبعد من ذلك، معلناً أن أحداً (اقرأ السلطة السياسية التي يُعدّ الجيش ذراعاً تنفيذية لها) «لا يحق له التدخل برسم سياسة الجيش». ليس «تقريع» القوى السياسية وإشهاره قطع آخر خيط يربطه بعرّابه ميشال عون، ما كانا لافتين في كلامه، بقدر ما هي النزعة «الانفصالية». لم يأتِ على ذكر القانون، ولا الدستور، إلا عند الحديث عن ضمان حرية التعبير السلمي. وهو في ذلك يستبق قرار السلطة السياسية التي يتبع لها. يتجاهل قراراً نافذاً لمجلس الوزراء بمنع قطع الطرق الرئيسية، و«يقوطِب» على اجتماع بعبدا الذي شارك فيه إلى جانب رئيس الجمهورية رئيسُ الحكومة ووزيرة الدفاع ومسؤولون آخرون: كل رؤساء قائد الجيش طلبوا منه تنفيذ مهمة، لكنه قرّر، منذ ما قبل وصوله إلى اجتماع بعبدا، عدم تنفيذها وقول ذلك في خطاب علني.
بات لزاماً على بعض المحيطين به أن يعيدوه إلى أرض الواقع: اسمك جوزف عون، لا كنعان إيفرِن


«لا أحد يحق له التدخل برسم سياسة الجيش». ومن هذا المنطلق، سيستمر بتلقّي الهبات «من الجيوش والدول الصديقة»، لأنه «لولا هذه المساعدات، لكان الوضع أسوأ بكثير»، لجهة «الحفاظ على جهوزيتنا العملانية». وحده يرسم السياسة، ووحده يحدّد الجيوش الصديقة التي يقبل منها الهبات، ولو من دون المرور بأي آلية قانونية ودستورية، ومن دون أي وصاية من وزارة الدفاع أو مجلس الوزراء.
ليست اللهجة الانقلابية وحدها ما ميّزت خطاب «القائد». ففي سياق ترشّحه للرئاسة، أظهر ميلاً حادّاً نحو اختراع عدوّ وهمي. وهذا العدوّ، الداخلي طبعاً، يشنّ «حملات متواصلة، إعلامياً وسياسياً» بهدف «ضرب الجيش وفرطه»! من المفهوم، والمنطقي أيضاً، أن يلجأ قائد أيّ جيش، وفي إطار الحفاظ على ما يُسمّى «معنويات العسكر»، إلى الرد على أي هجوم تتعرّض له المؤسسة التي يقودها. لكن في بلاد يُبالِغ فيها الإعلام والساسة ورجال الدين والمال بمديح الجيش، واختراع أساطير وإلصاقها برأس الهرم فيه، وإسباغ صفات الحكمة والشجاعة والوطنية على أيّ قائد للجيش، ويقبل فيها وزراء دفاع كثر أن يكونوا مجرّد حاملي أختام للقائد، ويرتضي فيها المجلس النيابي الامتناع عن مساءلة حامل رتبة عماد عن أيّ صغيرة أو كبيرة... في بلاد كهذه، يصعب تفسير كلام الجنرال جوزف عون عن حملات هدفها «فرط الجيش». هذه تهمة شديدة الخطورة، وتوجب ملاحقة هؤلاء المتآمرين الخونة، الذن يريدون فرط المؤسسة العسكرية. من واجب قائد الجيش إبلاغ السلطة السياسية بما لديه من معلومات، عن مخطط «فرط الجيش»، والتحرك لضرب هذه المؤامرة، ولو اقتضى ذلك إعلان الحرب. لكن، في الواقع، ما يضيق به صدر القائد، هو أداء مؤسسة إعلامية واحدة، وعدد من الإعلاميين لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، لا يمجّدون شخصه ليل نهار، وينتقدون بعض أدائه، ويثيرون القليل القليل من القضايا التي يجب عليه أن يوضحها للناس. الرجل الذي يضع نصب عينيه كرسي بعبدا، لا يحتمل أيّ اعتراض على أفعاله كلها، فيما هو يزعم في مكتبه أنه يرحّب بأي انتقاد له كما «نشر أيّ ملف فيه ارتكاب في الجيش». خلاصة الأمر أن القائد يريد أن يكون فوق المساءلة. المساءلة السياسية كما المساءلة العامة عبر الإعلام. على طريقة الانقلابيين، حيث للجيوش قدرة على انتزاع الحكم ساعة يريد قادتها، يبدو أن جوزف عون اقتنع بقدرات «خلاصية» له، ولا يُسمح لأيّ كان بأن يخدشها ولو بكلمة.
بات لزاماً على بعض المحيطين به أن يعيدوه إلى أرض الواقع. أنت في لبنان عام 2021، لا في تركيا 1980. اسمك جوزف عون، لا كنعان إيفرِن.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا