من أين تأتي الدول «الضعيفة» بالتمويل اللازم لبناء المشاريع والتطور؟ فالهمّ الرئيسي فيها يدور حول كيفية الحصول على التمويل الخارجي من دون التخلّي عن السيادة أو الاضطرار إلى الموافقة على شروط قاسية. هل تُقفِل باب الاقتراض نهائياً؟ الدين ليس «شيطاناً»، وقد يكون أداة «فعّالة» لتعزيز النموّ في مُجتمع ما، شرط أن تُخصَّص المديونية لـ«الإنتاج» وليس «الريع». المُعضلة هي حين يلتبس الأمر على المُقرِض والمُقتَرِض. فشتّان ما بين التفاوض للحصول على قرض بشروط «منطقية»، لا تؤدّي إلى هيمنة جهة على القرارات المالية والنقدية والسياسية والأمنية لإحدى الحكومات، وبين القروض التي تشقّ الطريق لـ«انتداب» جديد، ويُصبح فيه البلد - بحجّة «إنقاذه» - رهينةً لجهة دولية ما. في 17 شباط الحالي، ألغت حكومة بوليفيا اتفاقية قرض (عقدتها السلطة الانقلابية السابقة) مع صندوق النقد الدولي بقيمة 346.7 مليون دولار أميركي، «دفاعاً عن سيادة البلد النقدية، بعد فرض شروط تتعارض مع الدستور المحلّي، إضافةً إلى إدارة القرض بطريقة غير منتظمة، أدّت إلى تكبّد مصاريف باهظة بلغت 24.3 مليون دولار»، بحسب ما أعلن البنك المركزي البوليفي.
(مروان طحطح)

في لبنان، لا يزال «الصوت الأقوى» بين أصحاب القرار لمؤيدي استمرار النموذج الاقتصادي المُدمن على الدولارات، مهما كلّف الأمر. مسارٌ بدأ بـ«مؤتمرات باريس»، وقاد مؤخراً إلى قرض الـ246 مليون دولار مع البنك الدولي (لدعم الأسر الأكثر فقراً) الذي يأتي حاملاً شروطاً غربية بتدمير دور الدولة وإداراتها نهائياً، وتشريع علاقة المواطن المباشرة بالجهات الدولية عبر خلق المزيد من الإدارات الرديفة، تمهيداً لوصاية مالية ونقدية وسياسية. ما يجري حالياً، يُشكّل عيّنة عمّا سيحلّ في البلد بعد عقد اتفاقية مع صندوق النقد الدولي.
أُثير الموضوع في جلسة اللجان النيابية المُشتركة يوم الثلاثاء 16 شباط. وأمام الملاحظات التي قدّمها عددٌ من النواب، تقرّر تأجيل بتّ اتفاقية القرض إلى جلسة أخرى تُعقد يوم غد الثلاثاء. وما بين الجلستين، انطلق حراك من السرايا الحكومية باتجاه الكتل النيابية لجمع الملاحظات التي لديها. في الأصل، ليس من واجب البرلمان تعديل نصّ الاتفاقيات الدولية، فهو في «الحالات الطبيعية» إما يُصوّت تأييداً أو رفضاً لها. ولكن لأنّ «الاستثناءات» هي التي تُسيّر البلاد هذه الأيام، وأمام وطأة الأزمة الاقتصادية على الفئات الضعيفة، تقرّر التغاضي عن عدم دستورية إقرار مشروع قانون لاتفاقية من دون مرسوم صادر بقرار من مجلس الوزراء. ولن يُطلب من البرلمان «البَصم» على الاتفاقية من دون الأخذ بآرائه. ستُجمع ملاحظات الكتل النيابية وتُرفع إلى رئيس الحكومة المُستقيلة حسّان دياب، على أن يتخذ القرار المُناسب مع وزير الشؤون الاجتماعية، رمزي مشرفية، وتجري مناقشتها خلال جلسة غد.
البنك الدولي «يرضي» جهات وزارية وسياسية عبر توظيف محسوبين عليها


الملاحظات كانت، تقريباً، مشتركة بين كلّ الكتل وتركزت حول:
- رفض أن يترأس مشرفية اللجنة التقنية المواكبة لعمل لجنة وزارية تتابع مواضيع الشأن الاجتماعي، لأنّ دورها تقني. ولكن برز اختلاف بين داعٍ ليترأسها المدير العام لـ«الشؤون» عبد الله أحمد، وبين رافض لوجوده.
- رفض إجراء توظيفات إضافية، مع ما يعنيه الأمر من تكبّد مصاريف إضافية، خاصة أنّ الرقم المطلوب وصل إلى حدود 26 موظفاً، وِسط معلومات عن «إرضاء» البنك الدولي لجهات وزارية وسياسية من خلال توظيف محسوبين عليها.
- تحديد المعايير لاختيار العائلات المُستهدفة، ووضع بيانات جديدة للأسر الأكثر فقراً بعيداً عن المحسوبيات السياسية والطائفية، بعد وضع إطار عام يشمل كلّ العائلات المحتاجة وتوحيد منصّات دفع المساعدات، فلا تبقى الأمور مُشتتة بين منصة وزارة الشؤون الاجتماعية والجيش ووزارة الداخلية ورئاسة الحكومة والبيانات لدى الأحزاب.
- وضع ضوابط لعمل برنامج الأغذية العالمي الذي اشترط البنك الدولي أن يتولى تنفيذ توزيع القرض.
- تخفيض مبلغ الـ18 مليون و385 ألف دولار المُخصّص لشراء سلع وخدمات استشارية وغير استشارية وتكاليف التشغيل الخاصة.

لا يزال المسح الشامل للأسر بحاجة إلى قرابة 3 أشهر لإنجازه


يقول أحد المسؤولين عن متابعة القرض إنّ «التعديلات لها علاقة بتعزيز سلطة الإدارة والدولة في الملفّ». ولكن ألا يُخشى أن يؤدّي هذا النقاش إلى خسارة الـ246 مليون دولار؟ يُجيب المسؤول بأنّ «البنك الدولي يملك «مُنتجاً» يُريد تسويقه، وهو ما كان مُمكناً أن يوافق على إقراضنا هذا المبلغ لولا موافقة الدول الغربية على ضرورة إعطاء لبنان هذه الجرعة»، ومؤكداً أنّ التعديلات لن تؤخّر صرف المبالغ «لأنّه أصلاً لم ينتهِ العمل على قاعدة البيانات، ولا يزال المسح الشامل للأسر بحاجة إلى قرابة 3 أشهر لإنجازه».
في جلسة اللجان المشتركة الأسبوع الماضي، أبلغ وزير المالية غازي وزني النواب أنّ تعديل الاتفاقية مُستبعد لأنّها تستلزم مفاوضات جديدة مع البنك الدولي. التواصل بين الكتل النيابية بعد الجلسة أفضى إلى «صيغة حلّ» تقضي بتوقيع البنك الدولي من جهة والحكومة اللبنانية من جهة أخرى على بنود مُحدّدة «تُضاف كمُلحق ويتمّ الالتزام بها عند التطبيق». لكن، يخشى بعض النواب عدم الالتزام بالملحق، في حال لم يتم ضمّه إلى أصل الاتفاق، وخاصة أن التجارب السابقة تُظهر عدم الالتزام بنصوص القوانين، فكيف الحال إذا بقي الملحق بمثابة «الرأي الاستشاري» غير المُلزم؟ وبرأي هؤلاء، على الحكومة أن تفاوض البنك الدولي مجدداً، للاتفاق معه على تحسين الشروط اللبنانية، الرامية، في المقام الاول، إلى خفض نسبة الهدر في القرض المدرج في بند الخدمات والسلع الاستشارية وغير الاستشارية (أكثر من 18 مليون دولار). وتذكّر المصادر النيابية بأن ما يجري البحث فيه هو اتفاقية قرض، لا اتفاقية هبة، وكل دولار سيحصل لبنان عليه اليوم سيسدّده بعد سنتين، مع الفوائد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا