البيانات المالية للمصارف والشركات المالية والتأمين، وكلّ مؤسسة تلتزم معايير المحاسبة الدولية في لبنان، «لا قيمة لها»! هي «الضربة المُحاسبية» الثانية التي تتلقاها الشركات اللبنانية، بعد أن وضعت شركات التدقيق المالي تقارير سنة 2019 للمصارف وبيّنت أنّ جميعها لم تُقدّم أرقاماً كافية للقيام بتحليل دقيق لمستوى السيولة والملاءة والربحية لديها، مع شكوك في قدرتها على الاستمرار («الأخبار»، عدد 9 تشرين الثاني 2020، www.al-akhbar.com/Politics/296199). السبب هذه المرّة، إضافةُ لبنان إلى لائحة الدول التي «تجاوزت معدّلات التضخم التراكمي لثلاث سنوات 100%»، وباتت تُصنّف اقتصاداتها كـ«تضخّم مُفرط»، ما يُحتّم إعادة صوغ البيانات المالية لسنة 2020 بالاستناد إلى مؤشّر أسعار الاستهلاك (CPI)، وإلّا لا تكون أرقام الربح والخسارة «حقيقية».مُصطلح «التضخّم المُفرط» اقتصادياً، يعني أن ترتفع الأسعار في بلد ما بأكثر من 50% شهرياً، وتنخفض معها القوّة الشرائية للعملة المحلية، وغالباً ما يكون الاقتصاد يُعاني من مشاكل مالية عدّة «تنفجر» في لحظة ما، فينهار سعر الصرف. يُصرّ رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية - الأميركية، غسّان ديبة، على أنّ «الاقتصاد اللبناني في حالة تضخّم مُرتفع وليس مُفرط». يشرح أنّ القاعدة الاقتصادية تُحدّد أنّه في حال سُجّل تضخّم 50% شهرياً، «أي أكثر من 1000% سنوياً، يكون الاقتصاد عندها في حالة تضخّم مُفرط. نحن ما زلنا بعيدين عن ذلك». يستعين ديبة بمؤشر أسعار الاستهلاك، الصادر عن دائرة الإحصاء المركزي، «إذا عُدنا إلى حزيران 2020 كانت النسبة 20%، انخفضت في تموز إلى 11.3%، وفي آب 3.61%، لترتفع في أيلول إلى 5.34%، ثمّ تنخفض في تشرين الأول إلى 3.9%». هذا الانخفاض «التكتيكي» مردّه إلى «تدنّي الطلب وتراجع إنفاق السكّان نتيجة عدم امتلاكهم للمال، وعدم وجود زيادة للأجور، والانهيار في سعر الصرف لليرة شبه ثابت عند حدّ مُعيّن منذ فترة، ولكنّه أيضاً مؤشّر إلى أنّ الاقتصاد اللبناني لا يمرّ بتضخّم مُفرط».
المشكلة أنّ القواعد الاقتصادية تختلف عن القواعد المحاسبية. فلـ«فريق عمل التدريب الدولي - IPTF»، المُختص بقضايا المحاسبة والتقارير المالية، الذي اجتمع في تشرين الثاني، رأيٌ مُختلف. محاسبياً، تتمّ مُراقبة البلدان التي تجاوزت معدّلات التضخّم فيها الـ100% لثلاث سنوات متتالية، حتى «تُدمغ» بالتضخّم المُفرط، بناءً على المعطيات التي ترد من «مجلس معايير المحاسبة الدولية»، إضافة إلى مؤشرات أخرى، أبرزها تفضيل السكّان التخلّص من العملات الورقية واستثمار أموالهم للحفاظ على قيمتها، أو استبدال العملة المحلية بعملة أجنبية مُستقرة نسبياً.
في الاجتماع الأخير للـ«IPTF»، تمّ إضافة كلّ من لبنان وإيران إلى اللائحة التي تضمّ الأرجنتين، وجنوب السودان، والسودان، وفنزويلا، وزيمبابواي. معيار المحاسبة الدولي الذي على أساسه جرى تصنيف هذه البلدان، هو «IAS 29»، ويُفترض في هذه الحالة أن تُعيد كلّ الشركات والمؤسسات التي تُطبّق المعايير الدولية، تعديل بيانات السنة المالية المُنتهية في 31 كانون الأول 2020، أو ما بعد. ويحتّم على مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، الطلب من المصارف تعديل التعاميم والطلب من المصارف وضع ميزانيتها مُستخدمةً الدولار، لإعداد بيانات مالية تعكس الواقع المالي الحقيقي للمؤسسات.
صندوق النقد الدولي انضّم إلى «الجوقة»، ناشراً أنّ على هذه البلدان تقديم بيانات مالية تأخذ في عين الاعتبار المعيارين «IAS 29»، والمعيار «IAS 21». وفي السياق ذاته، أصدرت شركة التدقيق المالي «PwC» تقريراً تدعو فيه كلّ المؤسسات في لبنان وإيران إلى «تطبيق الـIAS 29 كما لو أنّ الاقتصاد كان دائماً في حالة تضخّم مُفرط». في الحالة اللبنانية تحديداً، ترى الشركة أنّ «معدّل التضخّم كان حتى الـ2019 أقلّ من 10% سنوياً، ولكن منذ بداية الـ2020 ارتفع بشكل كبير، وبحسب المعطيات سيتجاوز التضخّم التراكمي لثلاث سنوات عتبة الـ100%، ومن المتوقع أن يستمر ذلك في السنوات المقبلة بسبب التدهور الاقتصادي وانهيار العملة».
يشرح مسؤول في إحدى شركات التدقيق العالمية أنّ «ميزانية أي شركة في لبنان لم تعد تعكس الواقع بعد الهامش الكبير بين الدولار الأميركي الحقيقي والدولار في المصارف، والانهيار في سعر صرف العملة، لذلك يجب إعادة تقييم الميزانيات لتعكس التضخم الحاصل في السوق». ماذا إذا لم تلتزم المصارف والمؤسسات المالية وشركات التأمين وغيرها بتطبيق المعيار؟ «ستكون شركات التدقيق مُضطرة إما إلى الامتناع عن إصدار تقارير مالية أو أن تذكر في التقارير أنّ المؤسسة المعنية لم تلتزم بالمعايير. لكن، بصراحة، تأثير الموضوع على هذه المؤسسات سيكون معنوياً، لأنّ المشاكل التي يمرّ بها الاقتصاد اللبناني وماليته، أصعب وأعقد بكثير من عدم تطبيق معيار محاسبي»، مُشيراً إلى أنّ «هذا المعيار سيؤثّر بشكل خاص على المؤسسات التي تملك أصولاً ثابتة، لأنّ إعادة التقييم لا تشمل العناصر النقدية».
التضخّم مؤشّر اقتصادي أساسي، ويؤثّر بشكل رئيسي على القرارات التي تتخذها المصارف المركزية في إطار السياسات النقدية. وحين تتوقّع شركة «PwC» أنّ الاقتصاد اللبناني سيُعاني من التضخّم المُفرط للسنوات المقبلة، فذلك «يعني أنّ علينا تغيير قواعد المحاسبة، وتوحيد سعر صرف الدولار للتمكّن من وضع ميزانيات دقيقة»، يقول عضو سابق في لجنة الرقابة على المصارف.
حتّى لو أرادت المؤسسات الالتزام بالمعايير الدولية، فالأرقام غير موجودة

أكثر المتأثرين بهذا التصنيف سيكون المصارف اللبنانية، خاصة بعد أن طلب منها مصرف لبنان زيادة رساميلها بنسبة 20% يجب أن تُسَجّل في ميزانية الـ2020. يُشير المصدر نفسه إلى أنّ «زيادة الـ20% لم يعد لها أهمية، لأنّه بعد تطبيق الـIAS 29 ستتدنّى قيمة الأموال الخاصة (الرساميل) في المصارف، وبالتالي بات من الضروري تعويضها قبل زيادة الـ20% عليها». أيضاً، سمح مصرف لبنان للمصارف بإعادة تخمين العقارات وتقديم عقارات جديدة لزيادتها إلى الأموال الخاصة، في مهلة تنتهي في 31 كانون الأول 2021، «يعني أنّ ميزانيات سنة 2021 ستتأثّر أيضاً، ويجب معرفة ماذا تساوي حقيقةً الأموال الخاصة لدى المصارف قبل تحقيق الزيادة». أحجار الدومينو ستُوقِع أيضاً المذكّرة الرقم 15/2020 الموجهة إلى المصارف من لجنة الرقابة، وتُحدّد نسب الملاءة الواجب اعتمادها، وتطلب من كل مصرف تقديم «استراتيجيته وخطّة عمله وتطوّر وضعيته المالية وربحيته… وتقييم المصرف الذاتي للمؤونات/ الخسائر الإضافية التي قد ترتّب». ولكن ماذا لو لم تلتزم المصارف بالـ«IAS 29»؟ بموجب التعميم 140 الصادر عن مصرف لبنان، «يُطلب من المصارف والمؤسسات المالية العاملة في لبنان الالتزام بتطبيق المعايير الدولية للتقارير المالية»، إلا أنّ وجود تعميم لا يعني «إلزام» المصارف به كما تُشير التجارب السابقة. فمصرف لبنان كان المُبادر سابقاً إلى «خرق» تعميمه، حين حدّد للمصارف نسب احتساب الملاءة والمؤونات بما يُخالف معايير المحاسبة العالمية، وذلك حتى لا تنهار نهائياً. ولأنّ الأزمة اللبنانية شديدة التعقيد وغير واضحة، يقول المسؤول في شركة التدقيق العالمية إنّه «نصحنا وزارة المالية طلب شطب لبنان من لائحة التضخم المفرط لعام 2020 حتى تتوضّح الأمور، من دون نتيجة. فالمعيار الأهم أن تصدر أرقام موحدّة ودقيقة عن وزارة المالية، تُحدّد سعر الصرف الفعلي ونسبة التضخّم. فحتّى لو أرادت المؤسسات الالتزام بالمعايير الدولية، فإن الأرقام غير موجودة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا