بعدما قدّم إفادته في بيروت أمام المدّعي العام التمييزي غسان عويدات، وإلى حين أن يمثُل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أمام المدعي العام السويسري في برن، يتواصل التحقيق في شبهة اختلاسات وتحويلات مالية من المصرف المركزي تخصّ سلامة وشقيقه رجا، ومستشارته التنفيذية ماريان الحويّك.الملف، على حساسيته لجهة ارتباطه بأعلى هرم السلطة النقدية في زمن الانهيار المالي، لم يحُزْ مساحة في البيانات السياسية اليومية التي تنبري عادة للهجوم أو الدفاع عن أي شخصية متّهمة أو مُدانة. لا خطوط حمراء ولا محميات طائفية.
غالبية السياسيين انقسمت بين ساكِت أمام «هيبة» القضاء السويسري ومنتظِر «محايداً». كأن لم يعُد سلامة عنواناً للانقسام في البلد، أقله في العلن. وهو انقسام سبق أن تظهّر في كل مرّة طُرحت فيها فكرة إقالته، بين من يريد الاقتصاص منه لأنه المدير التنفيذي للطبقة الحاكمة بعد الطائف، وبين من يحميه على اعتبار أنه ركن في «السيستم» أو بذريعة عدم وجود بديل منه. سقط الحاكِم، بلا مرافعات سياسية، ليس لأن هناك توافُقاً داخلياً على سقوطه، بل لأنه ليس في الداخِل اليوم من يستطيع أن يُدافِع عن مشبته فيه أمام القضاء السويسري في عزّ حنق اللبنانيين الذين أضاع سلامة والبنوك جنى أعمارهم.
قبل أيام، طالبَ رئيس حزب الحوار الوطني النائب فؤاد مخزومي بإنشاء لجنة تحقيق برلمانية لمعرفة الحقيقة ومحاسبة الفاسدين، بعدما حوّل عويدات مراسلة القضاء السويسري بخصوص التحقيق بالمبالغ المحوّلة من سلامة إلى هيئة تحقيق مصرف لبنان التي يترأسها الحاكم نفسه. أحد لم يُجِب عن المطالبة ولم يسأل أين مجلس النواب مِن قضية سلامة؟ أين اللجان النيابية والنواب الذين قدّموا قوانين وتشريعات «إصلاحية»؟ لماذا لم يخرُج أحد في الدولة، حكومة وبرلماناً، ليتخذ موقفاً واضحاً: إما أن رياض سلامة بريء وأن ما يحصل يضُرّ بسمعة لبنان المالية، وإما أن يعلِن ضرورة إزاحته جانباً إلى أن تتبيّن صحة الشبهة وما إذا كانت التسريبات «مُضخمة» كما ادّعى سلامة، أو أنها رأس جبل ارتكاباته المالية.
تكتل «لبنان القوي» كسر الصمت في بيان أمس، وقال إن «القضية التي حرّكها القضاء السويسري هي مهمة جداً لفتح كل الملفات المماثلة، ولكن يجب حصرها في البعد القضائي وعدم توظيفها في أي إطار سياسي». ورأى أن هذه القضية «تستوجب على المستوى اللبناني أن يواكبها القضاء اللبناني بتحمل مسؤولياته وببتّ الملفات والدعاوى الموجودة لديه، وهي تتصل بتهريب الأموال».
هذا ما يُشير إليه أيضاً رئيس لجنة المال النائب إبراهيم كنعان، بالإجابة عن الخطوات التي بإمكان اللجنة أن تقوم بها بشأن هذه القضية. وهو يرى أنه «إذا ما أردنا ضرب ملف قضائي نحاصره بالسياسة، لأنها تنسفه». وعليه، يقول كنعان إنه «يجب ترك الملف يسير بسكّته القضائية، وعلى ضوء النتائج ساعتئذٍ نقرّر الخطوات التي يجِب أن تُتخذ، بالعودة الى القوانين التي أقرّها المجلس، وأن استباق التحقيق سيؤثّر سلباً على مساره، وإذا أردنا أن نكون جدّيين علينا الانتظار».
تكتّل «لبنان القوي» يطالب القضاء اللبناني بمواكبة القضيّة السويسريّة


ويُشاطر كنعان في رأيه هذا عدد من النواب، حتى الذين ينتمون إلى قوى تُعدّ حليفة لسلامة، معتبرين أنها «مسألة قضائية لا تحتمِل الضجيج السياسي، لأن ذلِك سيحرفها عن مجراها القانوني ويؤثر في نتائجها». وربما من حظ البلد أن «القضية خرجت من القضاء السويسري لا اللبناني الذي تبطِل التدخلات فيه وضغط الرأي العام ميزان عدالته، وليسَ أدل على ذلِك من ملف تفجير المرفأ». بينما يقول وزراء إن «الحكومة معنية بالقضية من خلال وزيرة العدل، ولا يُمكن إدخال قضية بهذا الحجم ببازار السياسة لئلا تفسُد»!
بكل الأحوال، لا يلغي هذا التعامُل البارد، شكلياً، مع قضية سلامة في سويسرا بأن الملف لا يحرّك سياسياً خلف الأبواب المُغلقة. الرسائل يجري تبادلها عبرَ الإعلام.
لا شكّ بأن الخبر أحدث إرباكاً صامتاً في الوسط السياسي، وأظهر شيئاً من الحذر. فقرار إقالة الحاكم وتعيين بديل منه يختلف عن قرار فضحه ومحاسبته ومحاكمته. في الثانية، يرتفِع احتمال أن يخرج سلامة عن صمته. فماذا لو قرر الحاكم أن يفصِح عما يستره من أسرار الطبقة الحاكمة، وفي داخلها من هو في موقع الخصم له اليوم؟
الأكيد أن لا أحد يستطيع الدفاع عن سلامة حالياً. لكن صمت الطبقة السياسية هو في جزء كبير منه يعبّر عن خوف كبير من القضية التي ستكون فاتحة لحلقات جديدة في مسلسل لو كُتِب له أن يُنشَر، فلا شك في أنه سيضع رؤوساً كبيرة تحت المقصلة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا