منذ تجميد الجولة الخامسة من المفاوضات غير المباشرة اللبنانية ــــ الإسرائيلية برعاية أميركية، في 2 كانون الأول المنصرم، ليس ثمة ما يُنبئ بموعد قريب لها. بعد الجولات الأربع الأولى التي أوحت باندفاع إيجابي للتفاوض، بدا أن الجالسين إلى الطاولة لا يزالون عند النقطة الصفر. انفجر الخلاف وخرج إلى العلن في الجولة الرابعة في 11 تشرين الثاني. ثم جاءت دعوة إلى جولة خامسة، سرعان ما جُمّدت عندما أزف موعدها. عوض الذهاب إلى مقر قيادة القوة الدولية في الناقورة للجلوس إلى طاولة التفاوض غير المباشر، حضر الوفد الأميركي إلى بيروت حاملاً دعوة التجميد. قابل رئيسَ الجمهورية ميشال عون وقائدَ الجيش العماد جوزف عون والوفدَ اللبناني المفاوض برئاسة العميد الركن الطيار بسام ياسين، وافترق عنهم على خلاف حادّ لا يزال سارياً مذذاك، ومفاده عدم موافقته على الخط الرابع (النقطة 29)، والإصرار على حصر التفاوض بالمساحة «المتنازع عليها». ثم ربط بين استمرار التفاوض غير المباشر وهذا الشرط.منذ الجولة الأولى في 13 تشرين الأول، اصطدم الطرفان. بيد أن الخلاف أضحى الآن داخل السلطات اللبنانية. طرح الوفد اللبناني على طاولة التفاوض خطاً رابعاً لترسيم الحدود البحرية اللبنانية ــــ الإسرائيلية، حمل في ما بعد اسم النقطة 29. مصدره الجيش. عمل على وضعه قبل عقد من الزمن عضوا الوفد الحاليان العقيد مازن بصبوص ونجيب مسيحي، متجاوزاً جدول الأعمال المفترض على طاولة التفاوض، المتمحور حول خطوط ثلاثة: أول رسمته «إسرائيل» هو النقطة 1، وثان رسمه لبنان سابقاً هو النقطة 23، بينهما خط ثالث أحدثه المفاوض الأميركي فريديريك هوف حمل اسمه رمى إلى تقسيم المنطقة «المتنازع عليها» بمساحة 860 كيلومتراً. مذذاك، من الجولة الأولى إلى الخامسة غير الملتئمة، يتعذّر الاتفاق على خط الترسيم الذي ينطلق منه التفاوض.

انقر على الصورة لتكبيرها

في الآونة الأخيرة، انتقل الخلاف على النقطة 29 إلى الداخل اللبناني. من جراء تصلّب المواقف المحلية والتقاطع الأميركي ــــ الإسرائيلي، أثير مجدداً الجدل من حولها. رغب الوفد العسكري اللبناني إلى السلطات السياسية في تسهيل مهمته بالتخلي عن هذه النقطة 23 التي كان صدر بها المرسوم الرقم 6433 في الأول من تشرين الأول 2011، وتبلّغته الأمم المتحدة، على أن يقترن هذا التخلي بتأكيد لبنان حقه في النقطة 29 وصدور مرسوم بها، يصير من ثم، بالطريقة نفسها، إلى إبلاغها إلى المنظمة الدولية. انقسم الموقف اللبناني حيال النقطة 29 بين أركان الحكم:
ــــ رئيس الجمهورية ميشال عون وافق على تعديل المرسوم والاستغناء عن النقطة 23 بالنقطة 29. كان قرر إدراجه من خارج جدول الأعمال في جلسة مجلس الوزراء في 21 تموز المنصرم، إلا أن تدخلات عدة لديه حضّته على تجميد الخوض فيه بعض الوقت، بسبب ما حكي عن خلافات من حوله تحتاج إلى تذليل. من ثم أتى انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، ثم استقالة الحكومة في 10 آب، ما أدى إلى صرف النظر عنه، إلى أن بوشرت جولات التفاوض غير المباشر. قبل ذلك، كتب وزيرا الدفاع المتعاقبان الياس بوصعب وزينة عكر إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، كي تدرج في جدول الأعمال مناقشة خيارات جديدة في ترسيم الحدود البحرية مع «إسرائيل» أعدّها الجيش، تمنح لبنان مساحات إضافية جنوب الخط المعلن في المرسوم 6433. وجّه بوصعب كتابه في 27 كانون الأول 2019، وعكر في 9 آذار 2020. بيد أن الأمانة العامة لمجلس الوزراء دفنتهما في الجوارير.
عون مع مرسوم جديد، وبرّي ضدّه، ودياب ينتظر الإجماع، و«حزب الله» صامت


ــــ رئيس مجلس النواب نبيه برّي عارض المرسوم الجديد وتعديل المرسوم 6433 النافذ، متمسكاً بالتفاوض الذي رعاه الاتفاق ــــ الإطار حول 860 كيلومتراً باتت قيادة الجيش تعتبر أنه يحرم لبنان مساحة إضافية كبيرة في مياهه تصل إلى خُمس مساحة لبنان، وهي 1430 كيلومتراً. في وجهة نظر القيادة أن التفاوض ــــ كأيّ تفاوض ــــ لن يمنح الحق المُطالب به كله. على الأقل من شأن أيّ تنازل محتمل يقوده التفاوض إعطاء لبنان بالنقطة 29 تنازلاً أقل مما تعطيه النقطة 23. لا يصح إذذاك ــــ والاستنتاج للجيش ــــ أن يُعد التنازل الأقل هو انتصار أقل، والتنازل الأكبر هو انتصار أكبر.
ــــ أبدى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ظاهراً اقتناعه بالمرسوم الجديد، إلا أنه أقرن موافقته بشرط تعجيزي هو حصول «إجماع» لبناني عليه. عنى ذلك، بلا أي التباس، معارضته وعرقلته توقيع المرسوم حتى. في التواصل مع أركان السلطات، طُرح التئام مجلس الوزراء وموافقته على المرسوم الجديد كغطاء سياسي للوفد العسكري اللبناني، ومؤشر وحدة موقف داخلي، من غير أن يحتاج المرسوم إلى مجلس وزراء كونه عادياً يقتصر على رئيسَي الجمهورية والحكومة ووزير الخارجية. ثم طُرِح، مع الأخذ بذريعة تصريف الأعمال الذي يحول دون التئام مجلس الوزراء، إعداد مرسوم جوّال يوقّعه الرئيسان والوزير المختص. تعثرت الخيارات كلها، واصطدمت بإصرار دياب على ربط توقيعه بالإجماع الذي يتطلبه.
ــــ حزب الله الموصوف بفائض القوة في السلطة، كما في الشارع، يلتزم الصمت حيال هذا السجال. يقول إنه لا يتدخّل لأن الشأن حكومي، وعندما يُسأل رأيه يعلّق. واقع الأمر، يطوي صمته مجاراة ضمنية لوجهة نظر رئيس البرلمان.

انقسام السلطات على النقطة 29 يعطّل المفاوض اللبناني


تبعاً للمعطيات التي أضحى عليها التفاوض، وقد بات أسير اشتباكين، لبناني ــــ لبناني ولبناني ــــ إسرائيلي، يقارب الجيش ــــ المعني بالتفاوض ــــ المرحلة المقبلة بمسحة تشاؤمية لأسباب شتى؛ منها:
1 ــــ ليست النقطة 29 بنت ساعتها. يعود رسمها إلى أكثر من عقد من الزمن بداية، ثم أعيدت إثارتها في نيسان 2020، قبل ستة أشهر على الأقل من بدء جولات التفاوض. كان الأميركيون والإسرائيليون منذ ما قبل الجولة الأولى للتفاوض على علم بهذا الخط، بيد أنهم أهملوا جديّته في حسبان المفاوض اللبناني. انطلق إهمالهم من أن الخط الوحيد الموثّق بمرسوم ولدى الأمم المتحدة هو النقطة 23، فوضع الإسرائيليون قبالته النقطة 1 كي يصير التفاوض تالياً على مساحة التنازع المحددة 860 كيلومتراً.
2 ــــ قبل ذهاب الوفد العسكري اللبناني إلى جلسة التعارف في الناقورة بأربعة أيام، تسلّح بموقفين: الأول في 10 تشرين الأول لقائد الجيش لدى استقباله مبلّغاً إياه توجيهات أساسية قضت بالتمسك بالنقطة 29 انطلاقاً من رأس الناقورة براً. عشية جولة التعارف، أصدر رئيس الجمهورية موقفاً مماثلاً. عنى ذلك ذهاب الوفد اللبناني إلى الناقورة حاملاً النقطة 29 دون سواها التي تجعله يفاوض على مساحة 2290 كيلومتراً (860 كيلومتراً ما بين النقطتين 1 و23 + 1430 كيلومتراً ما بين النقطتين 23 و29)، ملقياً وراءه أي احتمال للخوض في نقطتي 1 و23. بيد أن الانقسام السياسي الداخلي حيال المرسوم الجديد الذي يلحّ عليه الجيش، يفقده مقومات قوته في التفاوض.
3 ــــ منذ الجولة الأولى، راهن الأميركيون والإسرائيليون على سقوط خيار النقطة 29، فيما انتهت الجولة الرابعة في 11 تشرين الثاني إلى الحائط المسدود بتأكيد الوفد اللبناني أن النقطتين 1 الإسرائيلية و23 اللبنانية ساقطتان، وهو مستعد لمباشرة التفاوض في النقطة 29 فقط. تلقّف الأميركيون هذا الموقف على أنه عودة إلى النقطة الصفر، فجمّدوا الجولة الخامسة. تبعاً للتقاطع الأميركي ــــ الإسرائيلي، مآل التفاوض على مساحة 860 كيلومتراً «المتنازع عليها» سيؤول إلى القبول بخط هوف بتقسيمه إياها ما بين البلدين (468 كيلومتراً للبنان في مقابل 392 كيلومتراً لـ«إسرائيل»).

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا