«كيف أفلست؟ تدريجياً، ثم فجأة». هذه العبارة ترد في حوار من رواية لأرنست هيمنغواي في عام 1962، وهو تفسير دقيق لحالة الإفلاس. غير أنه لا ينطبق على تفليسة لبنان. بمعيار سعر الصرف، الانهيار حصل. وبمعيار الفقر أيضاً حصل. وبمعيار البطالة والرغبة في الهجرة حصل. وبمعيار تعديل أنماط الاستهلاك أيضاً… إذاً لماذا الكلّ مستسلم؟ دوافع هذا السؤال، أن المشهد على أرض الشارع انتقل من حالة الاحتجاجات العنيفة المتركّزة على أبواب المصارف، وأمام المقر الرئيسي لمصرف لبنان، إلى حالة الركود الشعبي والقبول بسحب الأموال على سعر صرف أقل بنسبة 50% على الأقل من السعر الفعلي. والحالة السياسية هي أيضاً انتقلت من الرعب الذي دبّ في نفوس المرجعيات أيام 17 تشرين الأول وما تلاها، إلى حالة المماطلة في تأليف حكومة لأشهر.
من الغليان إلى الركود
في مطلع عام 2020 كان المشهد على أبواب المصارف مخيفاً. موظفو المصارف كانوا يعيشون في حالة رعب من ردود فعل المودعين غير القادرين على سحب مدخراتهم بالدولار نقداً. كانت التظاهرات والاحتجاجات متواصلة أمام المبنى المركزي لمصرف لبنان. هذه المرّة لم يكن الاتحاد العمالي العام هو من يقودها باسم قوى السلطة وينفّسها باسم الشعب. سعر صرف الليرة كان يقفز باطّراد إلى أن بلغ ذروته عند مستوى 9900 ليرة مقابل الدولار الواحد. الأسعار تضخّمت بمعدلات كبيرة. سلّة الغذاء وحدها زادت بمتوسط 240%، فيما الألبسة والأحذية زادت بمتوسط 265%… وجاءت جائحة كورونا كعامل إضافي فوق انهيار غير مسبوق في تاريخ لبنان. ما يسمى بـ«النخب» عاشوا في حالة رعب حقيقي. فالدعوات إلى التظاهر أمام مساكن ومقار السياسيين والمصرفيين لم تتوقف، وصولاً إلى طردهم من المطاعم. وفي آذار أعلنت الحكومة التوقف عن سداد ديون سندات اليوروبوندز، وأطلقت نقاشاً في ما سمّته «خطّة التعافي».
… ما تقدم مجرّد عينّة عمّا حصل في الأشهر الأخيرة من 2019 والربع الأول من 2020، لكنه انتهى في النصف الثاني من عام 2020. بدا كأن الجميع استسلم. الحقيقة أنهم تكيّفوا بشكل مذهل. لا ردود فعل واضحة، ولا احتجاجات، حتى إن قوى السلطة استعادت نشاطها وانبرى المجلس النيابي إلى تفنيد الخسائر على «ذوقه»، وقرّرت قوى السلطة إطاحة الحكومة في آب من دون أي استعجال لتأليف حكومة جديدة حتى اليوم. لا يهم إن كانت الحكومة الجديدة ستقوم بما هو لازم، أو بأمر ما خارج «العلبة».
لوهلة، اقتنع المودعون، بصغارهم وكبارهم، بأن الانهيار حصل، لكنهم الآن تدجّنوا على التعامل مع المصارف. وانسحب هذا التدجين على الناس بصفتهم مستهلكين. فبكل هدوء، عدّلوا أنماط استهلاكهم لتتلاءم مع الوضع الناشئ. تقليل عدد الوجبات، وخفض مستوى نوعية الغذاء واللبس، ولم تعد تعنيهم مشاكل الاستشفاء والطبابة ولا التعليم، وحتى مداخيلهم التي تآكلت. لامبالاة مرعبة من طرفي السلطة والناس.

الرهان على عودة «الكازينو»
كيف يمكن ذلك؟ سيق الكثير من المبرّرات على شكل تداعيات جائحة كورونا والأثر الناتج عن الإغلاق، والتركيبة الطائفية لقوى السلطة وقدرتها على «ضبط الشارع»، وغياب القيادة والتنظيم عن التحرّكات يمثّل سبباً لخمود نار الاحتجاجات الشعبية ويطفئ لهب الانتقام من المصارف التي سطت على الأموال… كل ذلك لا يفسّر الحديث عن انهيار كبير آتٍ بينما نحن في قلبه الآن.
قد يكون تشبيه «الكازينو» الذي أطلقه الوزير السابق ورئيس حركة مواطنون ومواطنات شربل نحاس الأقرب لتفسير هذه الظاهرة. فالنموذج السياسي - الاقتصادي له جذور ”الكازينو“ منذ منتصف الثمانينيات، أي مع انهيار سعر الصرف وانتهاءً بالدولرة الكاملة في 1997. منذ 35 سنة، كان هذا الكازينو يقدّم الأرباح بوتيرة متواصلة. الكل كان يربح بشكل متفاوت. لكنّ ثمة معيارين لهذا التفسير: الأول زمني متصل بجيل ما قبل الحرب وما بعده، والثاني طبقي متصل بمن يملك الثروة والفقراء.
الخارجون من الحرب ربحوا عبر قنوات التوزيع السياسي والنقدي - المصرفي التي استمرّت لغاية 2019. الربح كان حقيقياً بفعل تثبيت سعر الصرف الذي رفع القدرة الشرائية إلى مستويات عالية جداً وقنوات التوزيع السياسية بجميع أشكالها الرسمية (القطاع العام) والخاصة (الإعانات…). «قيمة الليرة الشرائية أصبحت في عام 1999 أعلى مرتين ونصف مما كانت عليه في عام 1970 رغم انهيار سعر الصرف، ورغم أن الاقتصاد الحقيقي يكاد يكون غير موجود»، وفق نحاس. وجيل ما بعد الحرب لم يشهد سوى هذا النموذج الذي كان يتيح له الاستهلاك بوتيرة مرتفعة جداً. الأرباح عبر الكازينو كانت تتدفق عبر القنوات التوزيعية نفسها، سواء كانت سياسية أم بفعل تثبيت سعر الصرف.
في المعيار الثاني، يمكن التمييز بين الطبقة الوسطى والفقراء. الأولى اعتبرت أن القدرة الشرائية المرتفعة هي عبارة عن مكسب لا يمكن التخلّي عنه. تثبيت سعر الصرف كان عبارة عن رقي اجتماعي واقتصادي لهم، بينما الفقراء لم يكن لديهم ما يخسرونه سوى علاقتهم الزبائنية بالزعيم. هذه العلاقة كانت تقدّم لهم الخدمات عبر قنوات التوزيع السياسية، من دخول المستشفى إلى التعليم والتوظيف في القطاع العام…
هكذا تتضح الصورة أكثر. فالخسارة في ظل هذين المعيارين تتعلق بالإقرار بحصولها. لكن هناك الكثير من الدلائل على أنها خسارة يمكن القبول بها، «تماماً مثل خسارة الأرباح التي حصّلت من أرباح الكازينو»، بحسب نحاس. فعلى سبيل المثال، كان هناك الكثير من مديري المصارف الذين كانوا على علم بما يحصل بدقّة، لكنهم جمّدوا أموالهم التي علقت في المصرف كباقي المودعين. الأمر لا يتعلق بالطمع والجشع فحسب، بل كانوا يردّدون أن الانهيار آت، ولكنه لن يحصل قريباً. كانوا يراهنون، وسط تأكيدات سلامة الذي ترتبط صورته بثبات الليرة، على أنهم سيربحون من الكازينو ويفرّون قبل الانهيار. هذا هو وعدهم من سلامة و«بوطته». كان الرهان على التوقيت، رهاناً خائباً.

مخطط سلامة
إذا كان هناك استعداد لدى الناس للرهان على الكازينو مجدداً، فإن حالة عدم الإقرار بالخسارة «هي نتيجة تلقائية». الفرق كبير جداً بين المتراخين في مواجهة الخسائر لأنهم يرون أنهم خسروا ما لا يملكونه فعلياً، وبين الذين خسروا مدخراتهم المحققة بقوّة العمل. التعامل مع الخسارة يختلف بين الاثنين. بهذا المعنى، يصبح مفهوماً لماذا يقبل الناس سحب ودائعهم ضمن سقوف غير نظامية وعلى سعر صرف «المنصّة» بقيمة 3900 ليرة مقابل الدولار. كأن حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، يقول لهم سأقسم الخسارة بينكم وبين باقي الناس. كأنه يقدّم لهم حلّاً رضائياً. ستحصلون على دولاراتكم بنصف قيمتها الفعلية، وسأطبع الأموال مقابلها ولو كانت ستسهم في تضخّم الأسعار. سعر المنصّة الثابت مثله مثل الدولار بين 1997 و2019، يشبه أيضاً ما يحصل في الاسواق المالية عندما تراهن على ارتفاع سلعة ما وتحقق أرباحاً، لكنها تنخفض بسرعة فتضغط على زر «وقف الخسارة» (Stop losses). المثير للتساؤل: لماذا الناس جاهزون لهذا النوع من التسويات على الخسائر؟
أما بالنسبة إلى الفقراء، فهم الذين يعتمدون على مداخيلهم الضئيلة، وعلى علاقتهم مع الزعيم. في لحظات الانهيار يتشبّثون بهذه العلاقة. لا يستطيعون كغيرهم العيش على مخزون أموالهم وعقاراتهم، لذا ليس لديهم سوى الزعيم والهجرة. هم أسرى الفقر العالقين فيه منذ زمن، ولن ينفكوا عن الزعيم إلا بحدثٍ ما يكون كبيراً.
قيمة الليرة الشرائية أصبحت في عام 1999 أعلى مرتين ونصف ممّا كانت عليه في عام 1970 رغم انهيار سعر الصرف ورغم أن الاقتصاد الحقيقي يكاد يكون غير موجود


ما هو مستغرب أن يتعامل الناس مع الانهيار على أنه فرصة فردية. قلّة من الأفراد والشركات لم تتعامل بتجارة الشيكات والمضاربة على أسعار الصرف المختلفة. الكل فتح مصرفاً على حسابه. أصلاً هذه التجارة هي مخطّط سلامة لتوزيع الخسائر. لكنه توزيع غير عادل وغير هادف. هنا أيضاً صورة الكازينو ماثلة. فعلى أبواب أي كازينو في العالم تجد مجموعة من المرابين الذين يفتحون كازينو صغير على حسابهم، فيقومون بعمليات إقراض مقابل رهن العقارات والأملاك.

مواجهة الانهيار بالركود
وبالمعنى نفسه، يصبح النقاش في مسألة الدعم والاحتياطيات بالعملة الأجنبية واقعاً. «فلو كان هناك اعتراف بالخسائر، لكان النقاش يتعلق بالهدف الذي سنستخدم الأموال من أجله، وليس في كيفية تبذيرها»، يقول نحاس. ولو كان هناك إقرار بحصول الخسارة، لما كان هناك أي داع للحديث عن انهيار كبير آت. فبأي مفهوم يروّج لهذا الكلام؟ نصف الأسر المقيمة في لبنان وقعت في الفقر، والناتج أصبح 18.7 مليار دولار بدلاً من 55 ملياراً، أي إن هناك قطاعات بكاملها تضررت ومئات الآلاف الذين خسروا وظائفهم، والأسعار تضخّمت كثيراً إلى درجة أن ميزانيات الأسر لم تعد تحتمل إنفاقاً خارج نطاق الغذاء، وبات ثلث الأسعار يعتمد على مساعدات المنظمات غير الحكومية المبهمة الأهداف والتمويل لتمويل نفقات الغذاء. والتعثّر في تسديد الديون بات كبيراً، وخصوصاً في قطاع السكن، مع تجاوز معدلات التعثّر في القروض السكنية الـ11.5% (علماً بأن الكثير من المصارف توقفت عن تصنيف القروض السكنية المتعثّرة وأعادت جدولة عدد كبير منها). هذه مجزرة اجتماعية تدلّ بوضوح على مفاعيل الانهيار. الإقرار بالانهيار يعني التعامل معه بشكل مختلف عمّا قبل حصوله. عند هذا الحدّ يمكن أن تكون هناك آراء للنقاش في كيفية الإنقاذ والخروج، لكننا اليوم نشهد ركوداً مستغرباً، ركوداً شاملاً.



ارتفاع المخاطر على تعويضات الضمان
من أبرز الأمثلة عن عدم الإقرار بحصول الخسارة هو القانون الذي صدر في مجلس النواب بهدف «حماية أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي». المقصود بالحماية، هو استثناء أموال الضمان في صندوق تعويضات نهاية الخدمة من أي «هيركات». هل صحيح أن هذا القانون يؤمّن الحماية لأموال التعويضات؟ هذا القانون هو لزوم ما لا يلزم. فالانهيار أفقد قيمة التعويضات قدرتها الشرائية، لكن هذا الأمر ليس المشكلة الوحيدة التي ستواجه أموال الضمان. فعندما تتوقف المستشفيات عن تقديم الخدمات بالأسعار التي يدفعها الضمان، وتطالب بزيادة التعرفات لتصبح في الحدّ الأدنى على سعر صرف الـ3900 ليرة، فإن فاتورة الطبابة والاستشفاء التي ستترتب على الضمان ستتضاعف أكثر من مرتين، وبالتالي سيعمد الضمان إلى سحب التعويضات لتغطية قيمة التقديمات، كما يفعل الآن، لكن أموال التعويضات لن تكفي سوى بضع سنوات قبل الإفلاس. أما إذا قرّر الضمان زيادة الاشتراكات لتغطية العجز الناتج عن زيادة التعرفات، فإنه سيواجه مشكلة اقتصادية هائلة مع أصحاب العمل والعمال الذين ليس بإمكانهم تغطية الاشتراكات بمعدلاتها الحالية. هذا التفكير البدائي والساذج في التعامل مع الأزمة كاف للقول إنه لا يوجد إقرار بالخسائر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا