قبل أربع سنوات، لم يكن «التعليم المنزلي» مألوفاً بالنسبة إلى فريدة، وهي أم لولدين عادت من الخارج لتسجيل أبنائها في مدارس لبنانية. يومها، كان أحد طفليها في عمر الحضانة، وسيختبر المدرسة للمرة الأولى. ترددت كثيراً قبل التجاوب مع محاولات زوجها المتكررة لإقناعها بهذا الخيار. حصل ذلك، بعدما سمعت من جيرانها بأنّ بعض المدارس، بما فيها «المهمة والغنية»، لا تقدّم الحقائق العلمية بطريقة مشوّقة، ولا تزال تعتمد في جزء كبير من التعليم على حفظ المعلومات والتكرار، ما يجعل العملية التعليمية مضجرة في كثير من الأحيان، فضلاً عن حجم الفروض المنزلية التي تُلقى على عاتق التلامذة.اليوم تتابع فريدة طفليها عن كثب، تعرف المشاكل التعلمية لكل منهما، وتقدم لهما المعلومات من خلال القصص. تقول إنها تضحي بالمعلومات الآنية المرحلية لمصلحة حب الأولاد للتعلم. ويرضيها أنها نقلت «العدوى» إلى جيرانها الذين حذا بعضهم حذوها، فباتت تتشارك معهم إعداد البرامج وطرائق التدريس، وأصبح ابناها يدرسان مع بقية الأطفال في حيّز واحد في أحد المنازل.
تقر فريدة بأنّ المهمة «صعبة وتحتاج إلى كثير من القراءات والأبحاث... لكنها ليست مستحيلة، وهي ممتعة للأب والأم اللذين يرغبان في تقديم الأجمل للأبناء».
قبل جائحة «كورونا»، أحصينا خلال العمل على بحث جامعي، 19 طفلاً تلقوا تعليماً منزلياً في لبنان، لأسباب مختلفة، منها ما هو مرتبط ببيئة المدرسة (التنمر، منافسات سلبية، تعلم كلمات غير مناسبة من الأقران...)، ومنها ما هو مرتبط بالمحافظة على حب التعلم والاكتشاف لدى الأطفال وعدم تعقيد عملية التعليم.
مريم هي إحدى الأمهات التي اتّبعت تعليماً منزلياً مع ابنتها نور منذ عمر الـ6 سنوات. لم تسجّلها في أي مدرسة، وبدأت تلقينها مبادئ القراءة والكتابة بالعربية والإنكليزية من خلال اللعب والأغاني والأنشطة اليدوية. اعتمدت على الكتب المدرسية، إلاّ أنها لم تكن الأداة الوحيدة لتحصيل المعلومات، بل كانت تحرص على اعتماد كتب أخرى تناسب عمر الطفلة، إضافة إلى قراءة القصص وزيارة المعارض والمتاحف. وكانت نور تقدم امتحاني منتصف العام الدراسي وآخر السنة في إحدى المدارس التي أدرجت اسمها في لوائحها (لأجل الأمور القانونية فقط). ولا تزال الأم تذكر، في السنة الأولى، كيف تعجّبت معلمة اللغة العربية التي أشرفت على الامتحان من قدرات ابنتها وسألتها عن الطريقة التي علمتها بها، بعدما لاحظت أنها تستطيع القراءة كما لو أنها في صفٍ أعلى. وكان جواب مريم أنها علمتها «بهدوء وبساطة ومن دون أي ضغط، وبواسطة اللعب والأناشيد وسرد القصص».
في التعليم المنزلي ليست هناك حاجة إلى الالتزام بجداول زمنية منهكة، أو أي متطلبات منزلية إضافية. ينسجم هذا الأمر مع الأهالي الذين يعملون بدوام يومي كاملٍ. بعضهم ذكروا أنهم يدرسون أبناءهم قرابة السادسة مساءً، وهم لا يحتاجون إلى أكثر من ساعتين نظاميتين، لكون «الصف» يضم تلميذاً واحداً أو ثلاثة تلامذة، مقابل الساعات السبع في المدرسة.
ورغم أن بعض المؤسسات في لبنان يبيع مناهج للتعليم المنزلي في لبنان، كما أشار بعض الأهالي، إلا أن هؤلاء يفضّلون تدريس أولادهم وفق المنهج اللبناني، لكونهم يمتحنون في مدارس نظامية.
وعن المخاوف من تأثير التعليم المنزلي على سلوك الأطفال، مثل الانزواء وعدم تكوين علاقات اجتماعية وصداقات، نفت مريم الأمر، إذ «لدى نور أصدقاء كثر تلعب معهم وتزورهم في منازلهم». الفتاة التي لم تذهب إلى مدرسة، تتمتع بمهارات في الرسم والموسيقى وتأليف القصص والأشغال اليدوية، وهي حازت المرتبة الثالثة في لبنان في امتحانات الشهادة المتوسطة. وفيما عادت نور والتحقت بالمدرسة في المراحل الدراسية الأخيرة، أمضى تلامذة آخرون في التعليم المنزلي كل المراحل من الروضات حتى الثانوي الثالث.
هذا النمط من التعليم، كأي نمط آخر، ليس مثالياً، وفيه مجموعة من التحديات؛ منها ما هو مرتبط بالتنشئة، وبالأنشطة الخارجية، والمناهج والأهل والأساتذة. لكن التجارب تستحق القراءة بتأن وموضوعية، خصوصاً أن الفرصة مؤاتية لدراستها وتنظيمها في لبنان، انسجاماً مع النظام التربوي الحر، ولا سيما أنه قد يكون أحد الحلول الناجعة في الظروف الراهنة.
الفرصة مؤاتية لدراسة هذا النمط التعليمي وتنظيمه انسجاماً مع النظام التربوي الحر


التعليم المنزلي بشكله الحالي «البدائي» يتطلب تسجيل التلامذة في المدارس مع أخذ إعفاء من الحضور، سواء في المدارس أم متابعة «التعلم من بعد»، على أن يجري إلزامهم بإجراء الامتحانات النصفية والسنوية لتقييمهم، وإعطائهم إفادات النجاح والترفيع.
رئيس دائرة التعليم الرسمي هادي زلزلي أوضح أن وزارة التربية لا تسمح بمثل هذا التعليم، وهو يعرّض أصحابه للملاحقة القانونية أو سحب الشهادات، نظراً إلى عدم وجود أي قانون ينظّم هذه العملية حتى الآن، نافياً أن تكون هناك أي دراسات أو إحصائيات رسمية تتناول هذه الظاهرة في لبنان!
ورغم أن الوزارة تؤيد مثل هذه الخطوات الجريئة التي تصبّ في تطوير القطاع التربوي وتحسينه، إلا أن الأمر يحتاج إلى إصدار قانون لتنظيم التعليم المنزلي، وتعزيز التنسيق بين الوزارات، لضمان سير تطبيق القانون.
في السياق، تجدر الإشارة إلى أن القانون اللبناني يسمح لأيٍ كان بلغ الثانية عشرة، سواء دخل مدرسة أم لم يدخل، بأن يجتاز امتحان البريفيه بطلب حر.
في المقابل، يطمح كثيرون من الأهالي الذين يمارسون تعليماً منزلياً وسواهم ممن يمتنعون بسبب غياب القوانين المنظمة، إلى اعتماد خطوات جدية لمواكبة التحديات التربوية في العالم، ويدعون في سياق ذلك إلى تشريع مثل هذا التعليم، وخصوصاً في مثل الظروف الحالية التي يقع فيها، أصلاً، عبء تعليم الأطفال على عاتق الأهل الذين يسدّدون الأقساط الواجبة عليهم كاملة.

* باحث في المجال التربوي والإداري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا